Salvation For All Nations           الخلاص لجمـيع الأمـم      

فقال لهم.من اجل ذلك كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلا رب بيت يخرج من كنزه جددا وعتقاء

(متى 52:13)

To home page  الى الصفحة الرئيسية

 

أشعياءإيلياأخنوخاسحق

 

رجال من الكتاب المقدس

        بقلم الدكتور . سامى بولس

(6 ) إسحق الرجل الذى أطاع أبيه حتى الموت  

رجل هذا العدد هو إسحق الرجل الذى لم يخالف أبيه عندما حاول أن يذبحه بل أطاعه مستعدا أن يموت بدلامن أن يخالفه . وهوبهذا كان الوحيد الذى أعطى البشريه مثالا حيا عن مجئ المخلص الذى أطاع الآب حتى الموت على الصليب.

وعندما نتأمل فى حياة إسحق نجد أنه عاش حياة هادئة نسبيا إذا قارناها بحياة إبراهيم أبيه أو حياة يعقوب ابنه. فلم يكن فى حياة إسحق غير قليل من الحوادث المثيره أشهرها ما تحدثنا عنه فى الحلقه السابقه عندما أمر الرب إبراهيم أن يقدم ابنه إسحق محرقة وصمم إبراهيم أن يطيعه. لم يخبرنا الكتاب أن إسحق إعترض فلم ينطق إلا بجمله واحده, نطق بها قبل أن يصلا إلى المكان الذى عينه الرب. فقد سأل أبيه," يا أبى هوذا الناروالحطب ولكن أين الخروف للمحرقة" (تك 22 : 7 ). لقد كان سؤا ل إسحق سؤالا منطقيا فقد أخبره أبا ه أنهم سيقدمون ذبيحة للرب فرأى كل ما سوف يحتاجونه ولكنه لم يرى الحيوان الذى سيقدمونه ذبيحة. لا شك أن سؤال إسحق قد حرك فى إبراهيم  مشاعرعديده ولكنه لم يدعها تؤثرفيه أوتظهر عليه فقد كان عزمه قدانعقد أنه سوف يطيع الرب. ولذلك رد على ابنه بهدوء" الله يرى له الخروف للمحرقة يا إبنى" (تك 22   :  8 ).

لم تبدأ قصة إسحق عند ما ولد بل بدأت قبل مولده بعشرات السنين عندما أمرالرب أبيه إبراهيم أن يترك أهله ويتبعه إلى الارض التى اختارها له وأنه سوف يجعله أمة عظيمة. وكان إبراهيم ابن خمسه وسبعين عاما وساره بنت خمسه وستين. وأبطأ الرب فى تحقيق وعده, فكان على إبراهيم أن ينتظرالرب خمسا وعشرين عاما قبل أن يولد إسحق . وفى هذه المده لم يكن إيمانه ولا إيمان ساره

قويا رغم تكرار الرب وعده لهما عدة مرات. وكان من نتائج عدم إيمانهما أن كلا منهما قد ضحك عند سماعه لوعد الرب فى مناسبتان مختلفتان ولذلك سمى الرب المولود الذى وعدهم به إسحق الذى معناها " ضحكه أو قد ضحك". لقد كان إسحق  آحد القلائل الذين سماهم الرب, وهم إسماعيل

وسليمان وكورش ملك فارس وابن أشعياء وهوشع ويوحنا المعمدان وأخيرا الرب يسوع.

وعندما ولدإسحق تغيرت حياة إبراهيم وساره فقوى إيمانهما بالرب وأصبح إسحق قرة أعينهما فأحباه حبا عظيما. ومن أجله طرد إبراهيم إبنه الآخرإسماعيل وأمه حتى لا ينافسا إسحق فى الميراث.وقد

وافق الرب على ذلك فعاش إسحق فى كنف آبيه وأمه متمتعا بحبهما وبالعيش الرغد الذى وفراه له فقد كان إبراهيم غنيا يعيش فى مستوى لم يعش فيه الا قليلون فى عصره. ولا شك فى أن أبويه قد لقناه دروسا عن محبة الله وقصا عليه كل ما فعله معهم فنما إسحق فى الايمان وفى طاعته لهما.

وعندما كان إسحق ستة وثلاثين عاما توفت ساره ولشدة محبته لها حزن عليها جدا ولذلك رأى إبراهيم أن يزوجه لعل زوجته تنجح فى ملآ الفراغ الذى كانت آمه تملآه. وعندما نقرأ تفاصيل هذا الزواج  نتساءل عن كثير مما حدث بل نجد أنفسنا نتعجب من بعض التفاصيل التى نجدها غريبة والتى قبلها إسحق ولم يعترض عليها بل أطاع أبيه هنا كما أطاعه على جبل المريا. لم يخبرنا الكتاب أن إبراهيم حدث ابنه فى الموضوع أو ناقشه فيه أوفى الخطة التى عزم عليها, وقد يكون فعل هذا ولم يسجل الكتاب عنها شيئا. ولكنه سجل أنه تكلم مع رئيس عبيده موكلا إياه فى إختيار زوجة لإسحق. لقد أمره ألا يأخذ لإبنه زوجة من بنات الكنعانيين بل يختارها من أهله وعشيرته الذين لا زالوا فى أرض الكلدانيين. ولكن عندما نستمع إلى ما قاله له إبراهيم يتضح لنا أن إبراهيم لم يوكل العبد ليختار زوجة لإسحق بل وكل الرب. فقد قال له قبل أن يرحل, "الرب إله السماء الذى آخذنى من بيت أبى ومن أرض ميلادى والذى كلمنى والذى أقسم لى قائلا لنسلك أعطى هذه الأ رض هو يرسل ملاكه أمامك فتأخذ زوجةلإبنى من هناك." ( تك  24 : 7 ) ولذلك لم يعترض إسحق ولم يطلب أن يصاحبه

 لكى  يختار زوجته بنفسه لأنه وضع الأمر فى يد الرب كذلك. ويبدو أن العبد أيضا كان يعلم أنه ليس إلا آلة فى يد الرب فرحل وهو مطمئن. فكان كل ما يشغل تفكيره أثناء الطريق هو كيف سيعرف الفتاة التى سيختارها الرب. يخبرنا الكتاب أنه طلب منه أن التى يطلب منها أن تعطيه ليشرب فترد  

عليه قائلة  "إشرب وأنا أسقى جمالك أيضا" تكون هى التى إختارها الرب. ولم ينتظر العبد طويلا فقد جاءت رفقة إبنة إبن ناحور شقيق إبراهيم لتملأ جرتها من العين. وعندما سألها أن تعطيه ليشرب

ردت عليه الرد الذى كان ينتظره فعلم أنها هى التى إختارها الرب زوجة لسيده إسحق. ودعته رفقة ليبيت عندهم وعندما قابل أهلها أخبرهم بالقصة وغرضه من الزيارة وطمأنهم على سيده إبراهيم وابنه إسحق وكيف أن الرب باركهما وطلب منهم أن يعطوه رفقة لتكون زوجة لإسحق فوافقوا.

  وأخذها إسحق زوجة وأحبها فقد كانت رفقه جميلة ولكنها لم  تنجب له ذرية فقد أغلق الله رحمها كما أغلق رحم ساره من قبلها. وصلى إسحق إلى الرب من أجل إمرأته, واستجاب له الرب فحملت وشعرت أن فى بطنها طفلين. ويبدو أن هذا كان نادرا فى تلك الآيام فصممت أن تسأ ل الرب. فرد عليها قائلا," فى بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان, شعب يقوى على شعب وكبيريستعبد لصغير"   ( تك25  : 23 ) فلما كملت أيامها ولدت توأمان عيسو الذى خرج أولا وتلاه يعقوب قابضا على كعب أخيه. واعتبر عيسو البكر لآنه خرج أولا, وكان إسحق ابن ستين عاما عندما ولدا ولم يرزق بغيرهما.

  وكان إبراهيم قد اتخذ زوجة اسمها قطوره وأنجب منها ستة أولاد ولكنهم لم يرثوا مع إسحق فقدأعطاهم إبراهيم هدايا وصرفهم بعيدا عن إسحق إبنه. وعاش إبراهيم حتى بلغ سنه مائه وخمسه وسبعون عاما توفى بعدها. وعندما علم إسماعيل حضر واشترك مع أخيه إسحق فى دفن أبيهم , وكان قد أوصى أن يدفن فى مغارة المكفيلة التى دفنت فيها ساره.

  بعد ذلك مر إسحق فى نفس المأزق الذى مرفيه إبراهيم من قبله فقد حدث جوع فى الآرض التى كان بها وفكر إسحق كما فكرإبراهيم أن ينزل إلى أرض مصربعد أن ذهب إلى أرض جيرارووجد الجوع فيها أيضا. ولكن الله حذره من ذلك وقال له أن يمكث حيث كان وكررله وعده بأنه سوف يباركه وأطاع إسحق الرب, ولكنه وقع فى الخطأ الذى وقع فيه إبراهيم فقد قال لرفقة أن تقول إنها أخته خوفا أن يقتلوه إذا علموا أنها إمرأته. وكان ممكنا لملك جيرار أن يأ خذها لكى تكون زوجة له ولكن الله أنقذ الموقف عندما رأى الملك إسحق يداعب رفقه فعرف أنها زوجته فعاتبه ولكنه لم يطلب منه أن يرحل. ولم يعاقب الرب إسحق على كذبته ولكنه عاله وباركه حتى كثرت ممتلكاته حتى أن ملك جيرارطلب منه أن يرحل إلى مكان آخر ففعل إسحق.

  وشاخ إسحق وضعف وكلت عيناه وخشى أن نهايته قد اقتربت فأ راد أن يبارك إبنه عيسو الذى يحبه قبل أن يداهمه الموت. فناداه وقا ل له أن يذهب للبرية ويصطاد صيدا جيدا ويطهيه بالطريقة التى يحبها لكى يأكل منه ويباركه. وسمعت رفقه ما قاله إسحق لعيسو, ولآنها كانت تحب يعقوب وتشعر أنه أحق من عيسو بالبركة فقد تنازل عن بكوريته لأخيه باختياره,بدأت تفكر كيف يمكنها أن تساعد يعقوب ليحصل على البركه بدلامن أخيه. وعندما فكرت فى الأمروجدت أنه لا فائده فى مناقشة الأمر مع زوجها فقد كانت تعلم عظم محبته لعيسو واقتناعه بعدم شرعية تنازله عن بكوريته ليعقوب, فلم يبقى أمامها غيرأن تفكرفى أن تخدعه.

  يخبرنا الكتاب أنها رسمت الخطة وأخبرت يعقوب بها. وكانت تتلخص فى أن يتقمص يعقوب شخصية عيسوويسبق أخاه فيقدم لإسحق الطعام الذى سوف تعده هى فيحصل على البركه قبل أن يعود عيسو. ولما سمع يعقوب الخطة لم يسترح لها فقد كان يعلم أنه وعيسو مختلفان اختلافا كبيرا وأن إسحق سوف يكتشف الحقيقة فيلعنه بدلا من أن يباركه. وعندما ذكرلأمه أنه أملس بينما عيسو مشعرطمأنته أنها سوف تضع من جلد الذبيحة على رقبته ويديه وتلبسه من ثياب عيسوفلن يشك يعقوب فى الأمر. ووافق يعقوب وخدع أبيه وأخذ البركه.

  وعندما نتأمل فيما حدث نجد أنه رغم أن الله كان قد اختاريعقوب إلا أنه لم يغفرلرفقه أو ليعقوب ما فعلاه فقد كان قادرا أن يباركه دون الحاجة للكذ ب والخداع. لقد عاقب الله كلا منهما  على ما ارتكباه. فقد هرب يعقوب من وجه أخيه الذى صمم أن يقتله وتغرب فى أرض بعيده سنينا طويله  وخدعه خاله فلم يعطه راحيل التى أحبها بعد أن خدمه سبع سنين بل أعطاه أختها ليئه, واضطرأن يخدمه سبع سنين أخرى قبل أن يعطيه راحيل. أما رفقه فلم تر يعقوب بعد ذلك فقد ماتت قبل أن يعود. ولا شك   أن يعقوب قد عرف الدور الذى لعبته رفقه فيما حدث, فماذا كان تأ ثير هذا على العلاقة بينهما؟ لم  

يخبرنا الكتاب شيئا عن هذا. هل سامحها ؟ هل بقى ما حدث بينهما يلون علاقتهما إلى أن انتقلت هى وتركت إسحق؟ولمعرفتنا للمحبه القويه التى كانت فى قلب إسحق نحو رفقه نرجح أنه فكر أن الأمركان قد قرره الرب وأن ما فعلته رفقه كان حسب إرادته  فغفرلها ما فعلت.

  وعاش إسحق حتى أصبح ابن مائة وثما نين عاما وأسلم الروح ومات وانضم إلى قومه شيخا وشبعان أياما ودفنه ولديه يعقوب وعيسو.       

 

 

أخنوخ

"وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه)  " تك 5: 24)

الرجل السابع من آدم، الذي يقول البعض: إنه اسمه يعني "المبتدئ" أو "الجديد" أو "المكرس" وعلى أي حال فإن العدد "سبعة" رمز الكمال في لغة الكتاب، ويبدو أن الرجل كان بمثابة بداية جديدة أو نقطة تحول في مفهوم التكريس وعمقه وجلاله ومجده أمام الله والناس،.. هل يرجع الأمر إلى أن الكلمات التي جاءت عنه كانت قليلة ويسيرة في أربع آيات في سفر التكوين وآية واحدة في الرسالة إلى العبرانيين، واثنتين أخريين في رسالة يهوذا؟!! أم لأننا مرات كثيرة لا تستلفت القصة أنظارنا إن لم تكن مصحوبة بوقائع معينة، تعين على الرؤيا أو تحديد الملامح؟!! أما لأننا في عجلة الحياة وسطحيتها وضجيجها وعدم تعمقها نغفل عن أن نطل على الجواهر المتلئلئة المضيئة، فلا نرى الرجل الذي كان أشبه بالفلته النادرة في عصره فعاش الحياة ولم ير الموت، لأنه عاش أجمل حياة على الأرض، وبرح الدنيا إلى حياة أبدية أسمى وأجمل، دون أن توضع على شفتيه كأس المنون ليجرعها، كما يجرعها كل إنسان على الأرض؟!!.. لقد أفلت أخنوخ وإيليا من الموت، ولن يوجد على شاكلتهما إلا أولئك الأحياء الذين يعيشون دون أن يروا الموت في المجيء الثاني السعيد!!.. من يكون هذا الرجل وما هي السمات التي يمكن أن تتميز بها شخصيته الرائدة العظيمة؟.. إنه في تصوري هو "المتصوف" الأول في الحب الإلهي إن جاز هذا التعبير؟!!.

فإذا قرأنا عن قافلة المحبين لله، الذين يركضون في سباق الحب الإلهي، فسنجد هذا الرجل أول المتسابقين في فجر الحياة البشرية!!.. لقد فتحت عينيه على الله، وإذ رآه لم يعد يرى شيئاً في الوجود غيره، فتن بالله، واستغرقه الحب الإلهي، وكان أسعد إنسان في عصره يسير هائماً مع الله، وقد ازدادت سعادته بهذا اليقين الذي ملأ قلبه أنه أرضى الله،.. وإذا صح أن رجلاً إنجليزياً عطوفاً تحدث ذات يوم إلى غلام كان يمسح حذاءه، وكان البرد قارساً،.. وقال الإنجليزي للغلام بعطف عميق: يا غلام.. هل أنت مقرور؟، وأجاب الغلام بابتسامة عميقة: لقد كنت كذلك يا سيدي إلى أن ابتسمت في وجهي!!.. إذا صح أن وجهاً بشرياً يطل على آخر فيصنع الابتسامة ويشيعها فيه، فكم يكون الله الذي أطل على أخنوخ ورضى عنه وأحبه!!.. إنها قصة جميلة رائعة، تستدعي تأملنا وتفكيرنا، ولذا يمكن أن نرى أخنوخ من عدة نواح.

أخنوخ من هو؟!!

لا أستطيع أن أتصور أخنوخ دون أن أراه الإنسان ذا الهالة والوجه النوراني، وهل يمكن لإنسان أن يعيش مع الله، ويسير في صحبة الله، دون أن تطبع الصورة الإلهية، أو الجمال الإلهي عليه؟. لقد صعد موسى إلى الله أربعين يوماً وأربعين ليلة، وعاد وجهه يشع بالنور وهو لا يدري، ولم يعرف حقيقة حاله، إلا من فزع الإسرائيليين الذين لم يستطيعوا أن يبصروا هذا الإشعاع من النور دون رهبة أو إجلال أو فزع، ولقد تعود موسى أن يضع البرقع على وجهه، ليغطي هذا النور كلما اقترب من الناس أو التقى بهم، فكيف يمكن أن يكون أخنوخ الذي تعرف على الله وهو في الخامسة والستين من عمره، وسار مع الله ثلاثمائة عام بأكملها من ذلك التاريخ؟!! وإذا صح أن "دانتي" كان يرسم على وجهه -وهو يكتب الكوميديا الإلهية- كل التأثرات والانفعالات التي تجيش في نفسه، فإذا كتب عن السماء، فهو أرقى إلى الملاك وهو يكتب، مأخوذاً بالصور السماوية الرائعة،.. وإذا تحول إلى الجحيم يدير وجهه، وكأنما الشيطان ينعكس من خلال ملامحه ونظراته، فهو أدنى إله وأقرب،.. وإذا صح أن الحياة تطبع على وجه الإنسان في الأربعين من عمره -كما يقال- معالمها من ذات السلوك الذي يسلكه بين الناس، فإن الرجل الذي يسير ويستمر مع الله في سيرة ثلاثمائة عام متوالية، لابد أن ينال من الجمال الإلهي ما لم يعرفه معاصروه أو أجيال كثيرة تأتي بعده،.. وهو الرجل النافذ النظر، البعيد الرؤيا، الحالم الوجدان، الذي يمد بصره إلى ما وراء المنظور، فيرى من لا يرى، شخص الله الذي آمن به، واستولى على كيانه وسيطر على كل ذره من تفكيره وعواطفه وبنيانه،.. وإذا كانوا قد قالوا: أن المصور المشهور "هولمان هانت" عندما قيل له كيف يستطيع أن يصور المسيح ويرسمه دون أن يكون قد رآه،.. أجاب: إني سأراه وأعيش معه، سأراه طفلاً في مذود بيت لحم، وسأذهب وراءه إلى مصر، وأعود معه إلى الناصرة، وأصعد وإياه فوق جبل التجلي، وأجول معه في جولاته بين الناس، وأتمشى وراءه في أورشليم، ولن أترك مكاناً ذهب إليه دون أن أذهب، وسأرسمه مأخوذاَ بهذه كلها، فإذا صح أن هذا المصور يعيش بخياله مع المسيح على هذا النحو الجليل فإن أخنوخ -وهو يضرب بقدميه في كل مكان، وقد أخذ الله بلباب حياته- لابد أن يكون الإنسان السارح الفكر البعيد الخيال، الممتد الرؤيا، الكثير التأمل، بل لعله من أقدم الشخصيات التي صلت فأطالت الصلاة، وناجت فمدت المناجاة، وهل يمكن أن يسير مع الله وهو أصم أو أعمى أو أبكم، لقد استيقظت حواسه بأكملها، فهو سامع مع الله، متكلم معه، وهو الذي سيجد من الشركة مع الله، ما يعطيه أن يشدو ويترنم ويسبح ويغني!!.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن هذا الرجل كان واحداً من أقدم المحبين الذين ملأ حب الله قلوبهم بل لعلنا نذهب أكثر فنراه المتصوف الذي بلغ أعلى درجات الحب الإلهي،.. فإذا كان اليونانيون قد جاءوا بعد آلاف السنين ليفصلوا أنوع الحب، وكانت هناك كلمات ثلاث مختلفة عندهم الأولى Evrn وتعني حب الشهوة ليس بين الرجل والمرأة، بل كل الأنواع التي تستحق أن تملك كمثل حب الجمال أو الخير، أو الحب الذي هو أساس الحياة الأدبية كحب الفضيلة، أو أساس الحياة الفنية كتذوق الجمال، أو أساس الحياة الفلسفية، وقد رأوها في حب الآلهة، أو الأبدية أو الخلود.. وكانت الكلمة الثانية Phibein وهي حب الخير غير الأناني الذي يعني بالإنسان والصديق والوطن وما أشبه، وكان اليونانيون يصفون به أعلى الناس، وقد وصفت به أنتيجون، الفتاة التي تابعت أخاها حتى القبر، وظلت إلى جوار جثته حتى ماتت، ووصفت به نبلوب التي ظلت عشرين عاماً تحدق في الفضاء البعيد تنتظر مجيء زوجها وسفنه الضائعة،.. والكلمة الثالثة Agapan وقد استخدمت في أكثر من معنى، وشاعت عباراتها بالمعنى السالف للكلمتين، وإن كانت تعبر عن الحب القوي العميق!!.. إذا كان أخنوخ في فجر الحياة البشرية لم يفصل أو يفرق بين هذه الأنواع، إلا أنه عاشها، فقد عاش يتذوق الحب الإلهي، ولعله صاح طوال حياته للناس: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، كما صاح المرنم الذي تغنى بذلك بعد آلاف السنين، أو لعله قال: "إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس بنفسي اشتهيتك في الليل أيضاً بروحي في داخلي إليك أتبكر لأنه حينما تكون أحكامك في الأرض يتعلم سكان المسكونة العدل. يرحم المنافق ولا يتعلم العدل. في أرض الاستقامة يصنع شراً ولا يرى جلال الرب" كما قال إشعياء فيما بعد!!. وعاش الحب الذي خرج به عن نفسه، واستغرق لا العشرين عاماً التي عرفتها بنلوب وهي تحدق في الفضاء البعيد، والتي لم تر بغير زوجها بديلاً،.. ولم ير زوجها بغيرها بديلاً –حتى في جنات الآلهة كما سرح الخيال الوثني- وظلا كلاهما على الوفاء بعد حروب تراوده حتى التقيت آخر الأمر،.. إن حب أخنوخ لله، كان هو التصوف الذي أشرنا إليه، والذي عاشه ثلاثمائة عام، وتجاوز به حاجز الموت حتى التقى بالله ليسبح في بحر الحب الإلهي إلى آباد الدهور !!.

وكان أخنوخ –ولا شك كما وصفه الكسندر هوايت- أسعد إنسان في عصره، ورغم أن العصر الذي عاش فيه –كما سنرى- من أشر العصور وأفسدها،.. لكن الرجل مع ذلك وجد جنته الحقيقية في السير مع الله،.. إنه لم يفزع من الله كما فعل آدم عندما زاره الله في الجنة، وكان عرياناً يخجل من خطيته، ويتنافر بالخطية تلقائياً عن محضر الله أو السير معه،.. إلا أن أخنوخ كان على العكس، لقد أدرك ترياق الله من الخطية، وتعلم كيف يتقرب إلى الله بالذبيحة، بل يلتقي المحبان في نشوة الحب وعمقه وصدقه وجلاله وحلاوته،.. وأجل وتلك حقيقة أكيدة إذ أن حب الله استحوذ عليه فغطى على كل عاطفة أخرى، وجاء البديل لكل حاجة أخرى، وأسكره وهو يعلم أو لا يعلم عن كل خمر يمكن أن يقدمها الناس بعضهم لبعض في هذه الحياة!!.. لقد عرف أخنوخ لغة الشاعر المتصوف الذي أنشد قصيدته بعد ذلك وهو يقول لله:

فليتــك تحلـو والحيــاة مـريــــــــــرة وليتـك ترضــى والأنام غـضــاب

وليـت الــذي بيني وبينـك عامــــر وبينـــي وبين العالمـيــــن خراب

إذا نلت منك الود يا غاية المنـى فكل الذي فوق التراب تــــراب

وكان أخنوخ أكثر من ذلك الرجل الغيور الملتهب، إن سيره مع الله لم يحوله إلى مجرد إنسان تأخذه النشوة، فيعيش في الأحلام دون أن يرى الواقع الذي يلمسه في العالم الحاضر الشرير، لقد زمجر كالأسد كما جاء في رسالة يهوذا قائلاً: "قد جاء الرب في ربوات قديسيه ليصنع دينونة على الجميع ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار"، وهنا نرى رجلاً ممتلئاً من الشجاعة، وقف إلى جانب الحق ومواكبه، ورفض أن يساير الباطل أو يرضى على الكذب أو يعيش في دنيا الخداع والنفاق والضلال،.. لقد أدرك أن الحق حق، وسيبقى ويسير هو إلى جانب الحق، حتى ولو امتلأت الدنيا بالباطل!!.. كان شجاعاً، وكان غيوراً، وكان الشاهد على عصره، لعصر يجري سريعاً ويستعد للطوفان المدمر المقبل الرهيب!!

أخنوخ المجدد

ولعله من الواجب أن نلاحظ هنا، أن ما أشرنا إليه عند تحليل شخصية أخنوخ، لا يعني بذلك أنه كان من طينة غير طينتنا، أو من طبيعة غير الطبيعة البشرية.. لقد ولد أخنوخ في عالمنا وجُبِّل كما جُبِّلنا،.. وهو يمكن أن يقول ما قاله آخر فيما بعد: "ها أنا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي".. لقد ولد أخنوخ بالخطية، وفي الخطية، ولكنه كأي مؤمن آخر، عرف الحياة الجديدة، والولادة الثانية.. ومن العجيب أن هذه الولادة.. جاءت نتيجة ولادة ابنه، إذ يقول الكتاب: "وسار أخنوخ مع الله بعدما ولد متوشالح".. لقد تطلع إلى وجه ابنه، ومن خلال هذا الوجه عرف الآب السماوي، لست أعلم مدى حبه لهذا الولد، ولكن هذا الولد كان بمثابة الفجر الجديد في حياته الروحية، أو في لغة أخرى: لقد أدرك أخنوخ أبوه الله عندما أصبح هو أباً، ومن خلال حنانه على ابنه أدرك حنان الله عليه.

ما أكثر الوسائل والطرق التي يستخدمها الله حتى تفتح عيوننا على ذلك الطارق العظيم الذي يقف على الباب ويقرع، فإن سمع أحد وفتح الباب، يدخل إليه ويتعشى معه، وهو معه،.. ومن الناس من يجذبه الله بالعطية، فتأتي قرعته الحبيبة في صورة إحسان دافق، وخير عظيم. قد يعطينا ولداً يؤنس حياتنا، أو معونة تسد حاجتنا، أو رحمة تقابل تمردنا وعصياننا،.. قد يأتي إلينا كما جاء إلى يعقوب الهارب في دجى الليل، بعد أن خدع أباه وأخاه، وكان من الممكن أن يقسو الله عليه أو يعاقبه، ولكنه على العكس رأى سلم السماء والله فوقها يقول له: "أنا الرب إله إبراهيم أبيك وإله اسحق، الأرض التي أنت مضطجع عليها أُعطها لك ولنسلك ويكون نسلك كتراب الأرض وتمتد غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض، وها أنا معك وأُحِطَك حيثما تذهب وأردك إلى هذه الأرض ولا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به".. وقد كان الله أميناً ودقيقاً وصادقاً في وعده إلى الدرجة التي جعلت يعقوب في عودته يصرخ أمامه قائلاً: "صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك، فإني بعصاي عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين".. وقد يأتي الله بصور متعددة أخرى، قد يكون ظاهرها الغضب، وباطنها الرحمة، أو شكلها التأديب وقلبها المحبة،.. ولكنها على أي حال هي نداءات الله إلى النفس البشرية حتى تعود من الكورة البعيدة إلى بيت الآب حيث الفرح والبهجة والحرية والجمال والعزم. وقد جاء هذا النداء بقدوم متوشالح ومعه عندما كان أخنوخ في الخامسة والستين من عمره!!..

أخنوخ المؤمن

فتح أخنوخ بالتجديد الصفحة العظيمة في العلاقة بالله، وهي ما أطلق عليها سفر التكوين: "وسار أخنوخ مع الله بعد ما ولد متوشالح ثلاثمائة سنة وولد بنين وبنات".. أو ما دعاه كاتب الرسالة إلى العبرانين حياة الإيمان، "بالإيمان نقل أخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لأن الله نقله إذ قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه".. أي أن السير مع الله، كان حياة الإيمان المرضية لله، والمبهجة لقلبه،.. ولم يكن هذا السير جدولاً رقراقاً بل نهراً متدفقاً، ولم يكن فتيلة مدخنة، بل ناراً متوهجة،.. أو في لغة أخرى كان إيماناً قوياً كاسحاً غلاباً لا يتذبذب، وهو بهذا يعد من أبطال الإيمان، وإذا شئنا أن نحلل إيمانه أو نصفه، يمكن أن نراه أولاً وقبل كل شيء المؤمن ذهناً، أو المؤمن الذي آمن عقلياً بالله، وكل خلية في ذهنه كتب عليها الله،.. لقد ابتدأ بما انتهى إليه الفيلسوف ديكارت،.. لقد أراد ديكارت أن يصل إلى الله، فبدأ من النقطة التي عزل فيها فكره عن كل مسبقات،.. وافترض أنه لا يوجد شيء يؤمن به، فهو لا يرى الطبيعة، وقد يكون الإيمان بها هو ختال النظر، وخداع الحس، وهو لا يؤمن بالله، فقد يكون الله موجوداً أو غير موجود، وظل ديكارت يشك في كل شيء إلى أن بلغ النقطة أنه لا يشك في أنه يوجد إنسان يشك، ومن سلم الشك آمن أنه موجود، إذاً فلابد أن له عقلاً، وأن هذا العقل يستطيع أن يفكر، وأخذ من سلم الشك طريقه إلى الإيمان، حتى توج هذا الإيمان بوجود الله، علة كل معلول، لا أعلم إن كان أخنوخ فكر في شيء من هذا، لكني أعلم أنه آمن بوجود الله وأدرك أن الله هو الحقيقة العظمى في الوجود، بل إن الله هو حقيقة كل حقيقة وصلت إلى ذهن الناس، وبلغت إدراكهم، فالله هو علة كل معلول، ومسبب كل سبب.. على أن إيمان أخنوخ لم يكن مجرد إيمان عقلي، بل كان أكثر من ذلك هو الإيمان الوجداني الذي تملك عاطفته، وسيطر على مشاعره وإحساساته،.. إن عواطفه كانت كلها إلى جانب الله، هل رأى الله في الطبيعة الساحرة؟!! هل رأى الله في الزنبقة الجميلة؟!! هل رأى الله خلف العصفور المغرد؟!! هل رأى الله في الخضرة المذهلة؟!! هل رأى الله في السموات البعيدة؟!! هل رآه في الشمس والقمر والنجوم؟، لقد رآه كاتب المزمور الثامن والتاسع عشر، ورآه وردثورت في الجبال العظيمة، ورآه يوناثان إدواردس في مظهر الطبيعة الخلاب، ورأته أعداد من الناس لا تنتهي، ممن يتحسسون الجمال، فلم يؤمنوا بجمال الطبيعة فحسب، بل قالوا مع الشاعر العظيم ملتون: بناء هذا الكون بناؤك وهو عجيب الجمال فكم أنت في ذاتك عجيب!!.. ورأى أخنوخ الله أكثر في أعماق نفسه فهو لا يرى الله حوله، بل أكثر من ذلك يرى الله داخله، أو كما وصفه أحدهم بالقول: إنه لم يره في الجمال الخارجي فحسب، بل رآه في جمال الداخل، في ذلك الشيء الحلو الدافق الذي يغمر قلبه، وفي السكرة اللذيذة التي تدغدغ حياته،.. إنه ذلك المحب الذي يسرح بعيداً بطرفه لا لأنه يرى شيئاً أمامه، بل لأنه الحب الرابض في أعماقه وقلبه، وهو الذي يتمتم بكلمات غير مسموعة، لأنه يناجي وجدانه الداخلي، وهو مرات كثيرة يمتليء بالبشاشة والسرور، لأن منظر المحبوب ومض أمام عينيه بصورة تبعث على النشوة، وتملأ الجوانح بسعادة لا توصف،.. وهكذا كان أخنوخ يسير مع الله وكأنما يشرب كأساسً منزعة مردية من الراح!!.

على أن أخنوخ في سيره مع الله كان أكثر من ذلك المؤمن اختباراً وعملاً،.. كانت له جنته الحقيقية في قصة الحياة اليومية العملية مع الله، ونحن لا نعلم هل كان الله يظهر له بين الحين والآخر كما كان يظهر لأبينا إبراهيم؟ لكننا نعلم بكل تحقيق أن صلته لم تكن منقطعة بالسماء، وكل ما يفعله الإيمان في حياتنا اليومية، كان من المؤكد يفعله في حياة ذلك الرجل القديم،.. وهل هناك من شك في أن أشواقه كانت سماوية، ففي الوقت الذي كان فيه معاصروه يضجون بما تضج به الحياة الأرضية من أكل وشرب ولهو ولعب وتجارة وعمل وصراع وقتال، كان هو يسير بقدميه على الأرض، وأشواقه وأنظاره متطلعة إلى السماء.. كان متخفف الثقل من الجاذبية الأرضية، إنه لم يكن يعيش ليأكل "بل يأكل ليعيش.. وكان الناس يحيون في العالم ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وأفكارهم واهتماماتهم في الأرضيات، أما هو فعاش ثلاثمائة وخمسة وستين عاماً، وأفكاره بعد الحياة المجددة لمدة ثلاثمائة عام أفكاره سماوية، عاش الناس يزرعون حدائقهم، ويرون أشجارهم، ويأكلون ثمارها، أما هو فكان يعيش بطعام أبقى وأسمى، وهو يأكل من حديقة الله غير المنظورة في الشركة مع سيده، كان طعامه من المن المخفي في العلاقة بسيده،.. ولم تكن مجرد الأشواق هي التي تفصل بين أخنوخ ومعاصريه،.. بل الصلاة أيضاً، لقد عرف الصلاة بكل أنماطها وألوانها في العلاقة مع الله، كان من أوائل الذين تخاطبوا مع الله، وأكثروا الصلاة،.. فحياة الشكر كانت على لسانه في كل وقت،.. هل رأى عصفوراً يغرد على شجرة؟.. إنه يشكر الله الذي صنع الشجرة، وصنع العصفور، وصنع الصوت الجميل الذي يغرد به العصفور؟!! هل تمتع في الحياة بمتعة ما، إنه يشكر الله الذي هو مصدر كل متعة يحس بها بين الناس.. وهل احتاج إلى شيء، وانتظر أمراً؟ إنه قبل أن يتحدث به مع الناس، أو يتخاطب به مع البشر، يخاطب به الله الذي يستودعه كل انتظاراته واحتياجاته؟!!.. هل جاءت الغيمة، وغطت الشمس، وحل الظلام؟.. إنه يؤمن بأن الشمس خلف الغيمة، وأنه مهما تتلبد الغيوم، فإنها لابد أن تنقشع، ويعود النور مرة أخرى، وتتوارى التجارب والآلام والمتاعب!!.. إنه على أي حال يصلي بصلوات وابتهالات وتضرعات،.. لأن الصلاة عنده هي النداء الذي يتجه به إلى الله في السماء!!.. لم تكن الحياة عند أخنوخ مجرد التطلع إلى الغيبيات، بل كانت أكثر من ذلك، الحياة التي تواجه الواقع في مختلف ألوانه وظروفه، هل ناله الأذى من الناس؟ وهل أمعنوا في إيذائه؟ هل تحولت الحياة ضيقاً ما بعده من ضيق؟.. لقد عرف الرجل طريقة إلى النصر، في النظر إلى معنى الضيق في الأرض، لقد أدرك نفسه غريباً في الأرض، يطوي الزمن كما يطوي الجواب الصحراء القاسية، ولابد من الوطن، والضيق يهون، ما دام السبيل إلى الله يتدانى ويقترب، وخفة ضيقته الوقتية ستنشئ أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً!!

وفي كل الأحوال واجه أخنوخ الحياة، وكافح الصعاب والمشقات والمتاعب، ولعله أدرك الحكمة التي غابت عن الصبي الصغير الذي وقف يرفع حجراً ثقيلاً –كما تقول القصة- وكان أبوه يرقب محاولته اليائسة دون جدوى،.. وقال الأب –وقد أدرك جهد ابنه البالغ. هل جربت يا بني كامل قوتك في رفع الحجر؟!!، وأجابه الصغير: نعم يا أبي، وليس عندي قوة أكثر من ذلك.. وقال الأب: لا أظن يا بني فمثلاً أنا قوتك، ولم تدعني لمساعدتك على رفع الحجر!!.. كان أخنوخ يعلم أن الله قوته التي يستعين بها في مواجهة كل صعوبة أو مشكلة أو معضلة أو تعب.

كان أخنوخ السابع من آدم نبياً، وكان من الأنبياء الشجعان الأقوياء، وعندما رأى الفساد يتزايد في الأرض ويستشري، زمجر كالأسد في مواجهة الخطاة، وكشف لهم عن دينونة الله الرهيبة العادلة، وغضب الله الذي سيلحق بفجور الناس وإثمهم، وربما كان أخنوخ أول من تحدث عن عقاب الله الأبدي الرهيب!!..

أخنوخ الخالد

كان أخنوخ الأول في الجنس البشري الذي قفز فوق سور الموت، ودخل الحياة الأبدية دون أن يتذوق كأسه القاسية المريرة،.. وكان أول البشر في الإعلان عن الخلود في الصفحات الأولى من كتاب الله، بل كان أولهم الذي يمكنه أن يقول: وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً، لم يكن هناك موت بالنسبة لأخنوخ، بل كان هناك انتقال وتطور، كان هناك مجرد انتقال من رحلة الأرض إلى رحلة السماء،.. هل انتقل في مركبة من نار كما انتقل إيليا؟ أم انتقل إذ أخذته سحابة كما أخذت المسيح عن أعين التلاميذ؟.. وهل جاء الانتقال أمام الناس كما يعتقد الكثيرون، حتى يبدو الأمر شهادة على سيطرة الله على الموت؟ أم اختفى فجأة على وجه لم يستطع أحد معرفة مكانه، وعبثاً وجدوا مكانه كما فعل أبناء الأنبياء عندما حاولوا التفتيش على إيليا؟ على أي حال.. لقد امتلأ أخنوخ بالحياة مع الله، وتشبع بهذه الحياة، حتى لم يجد الموت مكاناً له عنده،.. إنه يذكرنا بأسطورة الرجل الذي قيل أن الموت جاءه مفاجأة ذات يوم، وطلب الرجل إمهاله بعض الوقت، وقيل أن الموت أمهله قائلاً: سأعود إليك بعد سنة وشهر ويوم وساعة،.. وفزع الرجل محاولاً أن يجد السبيل إلى الخلاص من الموت، فذهب إلى الشمس وسألها: هل يمكن الهروب من الموت؟.. وأجابته الشمس: إنها تشرق على الناس وصرخاتهم كل يوم وهم يدفنون من لهم، ولم يحدث في يوم واحد أن غاب الموت عن الناس في الأرض،.. ذهب إلى الرياح يسألها: هل يمكن الهروب من الموت؟ وأجابته الرياح: إنها تلف الكرة الأرضية، وتلف بالصارخين الذين يصرخون وراء موتاهم في الأرض، ذهب إلى البحر يسأل: هل يمكن الهروب من الموت؟ وقال له البحر: ما أكثر الذين ضمتهم الأمواج والمياه من الغرقى أو الذين ماتوا على ظهر السفن، وطوح بهم تأكلهم الأسماك .. وحار الرجل، وفي حيرته التقى بملاك فوجه إليه السؤال: هل يمكن الهروب من الموت؟.. وقال الملاك: إنك تستطيع إذا سرت في موكب الأرض، والتقيت بالطفل الصغير الباكي، وعليك ألا تتركه حتى يضحك، والبائس حتى ترسم السعادة على شفتيه، والمنكوب حتى يرتفع فوق مأساته ونكبته ويترنم،.. وصدق الرجل، ووقف أمام آلام الناس وأحزانهم ومآسيهم وتعاساتهم، وهو يحول الدموع إلى الضحك والابتهاج والترنم،.. وقيل إن كل ابتسامة أوجدها على فم صغير أو كبير، انتقلت إليه وحولته هو إلى ابتسامة كبرى، دهش الموت عندما جاء لأنه وجد الرجل طيفاً مبتسماً في الأرض،.. هذه خرافة ولا شك، ولكنها تحمل المعنى العميق بالنسبة لأخنوخ، لقد ظل أخنوخ يتخفف من ثقل الأرض، ويرتفع في اتجاه السماء، حتى أفلت من الجاذبية الأرضية، وأخذته السماء بكل ما فيها من جلال وعظمة وبهجة ومجد.. ولم يوجد لأن الله أخذه ‍‍ ..

قد تسألني: ولكن كيف يمكن أن يكون هذا، وكيف يتحول الجسد المادي الحيواني إلى جسد روحاني؟‍‍‍

لست أعلم، وليس في قدرتي أن أصف كيف يتجمع التراب والرماد ليعود جسداً ممجداً في القيامة من الأموات،.. كل ذلك فوق علم الإنسان وفهمه وتصوره وخياله،.. لكني أعلم أن هناك فارقاً كبيراً بين الجسد الذي عاش به أخنوخ على الأرض، والجسد الممجد في السماء.. هذا الفارق هو ذات الفارق بين البذرة، والشجرة، وبين صغر الأولى وضآلة منظرها وحجمها، وكبر الثانية وعظمة صورتها وجلالها.. ومهما يعجز الخيال البشري عن توضيح الفرق بين الحياة هنا، والحياة هناك، إلا أن أخنوخ كان بانتقاله إلى حضرة الله، نبرة الخلود و توضيحاً للكلمات العظيمة التي ستأتي بعد آلاف السنين على فم السيد المبارك: "من آمن بي ولو مات فسيحيا، ومن كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد".. أو ما قاله الرسول عن المسيح: "الذي أبطل الموت وأناد الحياة والخلود بواسطة الإنجيل"..

أجل.. سار أخنوخ مع الله، وعندما بلغ النهر ووقف على الشاطيء، حمله الله عبر المجرى إلى الشاطيء الآخر الأبدي، ليسير الأبدية كلها في صحبة الله وملكوته ومجده، مع جموع المفديين، وحق له كالبشرى الأول أن يوصف بالقول: "بالإيمان نقل أخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لأن الله نقله إذ قبل نقله شهد له أنه قد أرضى الله ولكن بدون إيمان لا يمكن إرضاؤه، لأنه يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن أنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه"..
 

 

إيليا

  يا أبى  يا أبى مركبة إسرائيل وفرسانها  " ملاخي 2 - 12:2 "

فى علم الإحصاء : الرجل الواحد يكتب واحداً مهما صغر أو كبر شأنه ، وإن رجلين مهما يختلفان طولا أو عرضاً أو سناً أو مقاماً أو قوة أو نفوذاً ، يحسبان اثنين !!  ... غير أن الأمر يختلف تماماً فى قصة الحياة !! ؟ ... وقف  القائد الإنجليزى نيلسون على بارجة من البوارج البحرية ،  والتف حوله الجنود ، وهم يتحدثون عن قوة أعدائهم ، ... وإذا به يمسك بالمنظار المكبر ، ويضعه على عينه المفقودة البصر ، وينظر بها إلى الأمام ، ويقول : إنى لا أرى أمامى أعداء !! ... وهو يقصد السخرية والاستهانة بمن يحسبونهم قوة معادية وهو يراهم لا شئ أمامه ، ... فالإنسان فى نظره لا يحسب قوة معادية وهو يراهم لا شئ أمامه ، ... فالإنسان فى نظره لا يحسب بمجرد العدد ، بل بالعدة والقوة ، ..

ويبدو أن إيليا كان يقصد شيئاً من هذا القبيل ، وليس بالضرورة مع الأعداء ، بل ربما مع الأصدقاء أيضاً ، ... فمع أن عوبديا حدثه عن نفسه ، وكيف أمكنه أن يخبئ مائة من الأنبياء فى مغارتين ، إلا أن إيليا عندما تحدث مع الرب بعد ذلك ، لم يحسب حساباً لهؤلاء الأنبياء ، ناهيك عما علمه بعد ذلك بأن هناك سبعة آلاف ركبة لم تجث لبعل ، وكل فم لم يقبله ، إذ أن إيليا لم ير أحداً يواجه الوثنية والفساد غيره : " بقيت وحدى " ... وفى عرف أليشع كانت هذه الحقيقة واضحة  وهو يصرخ عند صعود إيليا إلى السماء ، ... إذ لم ير فردا صاعداً أمام عينيه ، بل رأى جيشاً بأكمله فى صورة فرد. مركبة إسرائيل وفرسانها " ... وهو يذكرنا بما قاله أحد القواد لجنوده ، عندما جاءوا يتحدثون إليه عن الكثرة الهائلة المتفوقة لجنود الأعداء على عددهم !! .. وكان سؤاله للجنود !!  .. وبكم تحسبوننى أنا !! ؟

كانت مارى الدموية تفزع من جون نوكس ، وتفضل أن تلاقى جيشاً من عشرة آلاف رجل ، على مقابلة الرجل الذى كتب على قبره ... هنا يرقد الرجل الذى لم يهب فى حياته قط وجه إنسان !! ..

كان إيليا جيشاً عرمرما فى وجه آخاب وإيزابل ، ومن هنا سنقرأ  قصته ونعرف من هو ، وما هى رسالته ، وكيف يمكن أن تتكرر فى كل أبطال اللّه على كر العصور والأجيال !! ؟

 إيليا ومن هو

كان إيليا من الشخصيات العظيمة التى كثرت حولها الآراء والتقاليد ، إلى درجة أن الأساطير فى التلمود صورته بصورة فينحاس بن هرون ، وقد عاد إلى الحياة مرة أخرى لينتقم لمجد الرب الذى حاولت إيزابل وآخاب أن يضيعاه من إسرائيل !! .. أو هو الملاك أو رسول الرب الذى صعد إلى السماء ، بعد أن قدم جدعون تقدمته أمامه ، فمسها بالعكاز وصعد فى لهيبها إلى السماء ، ... وهو الرجل الذى قلده الكثيرون من اليهود زعامة الأنبياء ، والذى رن اسمه طيلة تسعة قرون فى صدور الإسرائيلين ، والذى كانوا يضعون له كرسياً شاغراً عند ختان كل صبى فى إسرائيل ، وعند الفصح، آملين أن يظهر بغتة فى مثل هذه المناسبات ، .... والكلمة " إيليا " تعنى " إلهى يهوه " أو : " إلهى إله العهد " - أما " تشبه " التى ولد فيها فلا يعرف موقعها على وجه التحديد ، فالبعض يقول إنها بلدة فى الجليل تقع فى سبط نفتالى ، ولذا يعتقدون أن إيليا كان من هذا السبط ، وأنه هو أو ربما أبويه ، قد هرب إلى جلعاد من وجه الاضطهاد والوثنية أيام عمرى أبى آخاب ، واستوطن هناك ، ولذا دعى من مستوطنى جلعاد ، بينما يعتقد آخرون أن تشبه هذه بلد فى جلعاد الواقعة شرقى الأردن تجاه السامرة ، وأن إيليا ولد فيها ، ووجد من رده إلى الأصل القينى كيوناداب بن ركاب فى أيام ياهو !!  . ومهما يختلف الناس فى أصله أو نسبه ، فإنه من الواضح أنه كان رجلاً جبلياً إذا صح التعبير ، يألف حياة الجبال . وقد جاء المعمدان بعده ، ليعيش فى البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل ، وهذا النوع من الناس يتسم فى العادة بالخشونة والصلابة والشجاعة وقوة الاحتمال ، ... ومنهم الجاديون الذين فى أيام داود ، وصفوا بالقول : " جبابرة البأس رجال جيش للحرب صافوا أتراس ورماح وجوههم كوجوه الأسود وهم كالظبى على الجبال فى السرعة . هؤلاء هم الذين عبروا الأردن فى الشهر الأول وهو ممتلئ إلى جميع شطوطه وهزموا كل أهل الأودية شرقاً وغرباً " .. " 1 أي 12 : 8 - 15 " و الكتاب يصف إيليا : " أشعر متنطق بمنطقة من جلد على حقويه " . " 2 مل 1 :  8 ". والتقليد يقول : " إنه كان قصير القامة نذيراً ، أسود الشعر يتدلى شعره على كتفيه فى شبه عرف الأسد " ... ومع أننا لا نعرف كم استمرت فترة نبوته لإسرائيل ، غير أن البعض يرجح أنها كانت عشرين عاماً ، وأنه دعى للنبوة ومواجهة آخاب فى السنة الخامسة من كلمة ، أو حوالى عام  920 ق. م. وأنه التقى بآخاب بعد مصرع نابوت عام 906  ق.م ،وأنه صعد إلى السماء عام 900 ق. م ..

 إيليا وظهوره

ظهر إيليا فجأة كالشهاب اللامع فى الليل البهيم ... وأغلب الظن أنه كالمعمدان ، عاش السنوات السابقة لظهوره فى البرية ، وبين الجبال ، يتأمل ماضى أمته العظيم ، وكيف تحول كل شئ خراباً إثر  مجئ إيزابل زوجة  لأخاب الملك ، وكانت إيزابل بنت اثبعل ملك الصيدونين ، وكان أبوها كاهنا للبعل - كما يقول يوسيفوس - وقدوضعت خطتها من اللحظة الأولى لمجيئها إلى إسرائيل أن تبيد اسم اللّه من كل مكان ، وأن تحل محله اسم البعل وعبادته، وهوت ابنة الشيطان على كل مقدس فى إسرائيل ، هدمت مذابح اللّه ، وقتلت الأنبياء ، وأجبرت الناس على الانحناء للبعل وعشتاروث ، وأحلت محل أنبياء اللّه أربعمائه وخمسين من أنبياء البعل ، وأربعمائه من أنبياء السوارى ، وكان البعل أبا الآلهة عند الفنيقيين ومصدر القوة والسيطرة والبهجة ، والسوارى أو عشتاروث آلهة الخصب والشباب والجمال ، ولم يستطيع إيليا وهو ينظر مأساة أمته ، إلا أن يتحول ينبوعا من الحزن العميق والغضب الهائل ، والمقاومة الجبارة ، ... وهل يمكن أن يكون غير ذلك ، وهو الإنسان الذى كانت عبارته المفضلة:"حى هو رب الجنود الذى أنا واقف أمامه " " 1 مل 18 : 15  ".. وهل يستطيع واحد منا وقد وقف أمام الرب الحى ، ليرى بيتاً من بيوت اللّه ، وقد كان عامراً بالأمس، مجيداً ينادى بمجد اللّه ، وقد تحول اليوم خراباً تنعق فيه البوم  والغربان ، بسبب الخطية والشر ؟ ، وهل يمكن أن يمر بهذا البيت دون أن يقول : " ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى  نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى " " إر 9 : 1 ".  أليس هذا هو إحساس نحميا أمام أرتحشستا الملك : " فقال لى الملك لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض ؟  ما هذا إلا كآبة قلب ... وقلت للملك ليحيى الملك إلى الأبد . كيف لا يكمد وجهى والمدينة بيت مقابر آبائى خراب وأبوابها قد أكلتها النار " " نح 2: 2 و 3 " وإلى جوار هذا الحزن امتلأ الرجل بالغضب الهائل ، إذ أنه عاش طوال سنى خدمته يتقد غيره ، وانطوت نفسه على ثورة لا تهدأ ولا تستريح ، ... وإن الغيرة المتقدة الآكلة، حولت قلبه  إلى كتلة من لهيب ، وثورة هائلة ، لا تستطيع مياه الأرض كلها أن تطفىء سعيرها ، ولظاها ، .. هل لك اللهيب المقدس أيها المؤمن - وعلى وجه الخصوص - وأنت تعلم ، أنه ليس شئ عند اللّه أقسى وأوجع من الحياة الفاترة إلى الدرجة التى تثير الغثيان : " ليتك كنت بارداً أو حاراً ، هكذا لأنك فاتر ولست بارداً ولا حاراً أنا مزمع أن اتقيأك من فمى " " رؤ 3 : 15 و 16 " وقد تحول الحزن والغضب إلى مقاومة جبارة ، ... لقد كانت رسالته ، فى  لحمتها وسداها ، مقاومة الشر والفساد والطغيان والعبادة الكاذبة ، ... وهل يستطيع أن يقف أمام الرب ، ثم يواجه البعل ، وتهدأ نفسه وتستريح ،   .. كانت روسيا القيصرية تبذل كل جهدها فى مقاومة المرسليات فى القرن الماضى فى أنحاء الامبراطورية التركية ، ... وقد حدث لقاء بين واحد من سفراء القيصر ، وأحد رجال اللّه ، ... وقال السفير للمرسل : ينبغى ان أقول لك بكل صراحة أن سيدى القيصر لن يسمح للمرسليات البروتستانتية بأن تضع قدمها فى الإمبراطورية التركية ، وقال المرسل رداً على ذلك : " ياصاحب الفخامة : إن سيدى الرب يسوع المسيح لن يسأل قيصر الروس أين يضع قدميه " ... إن روسيا التى ضربها العفن والفساد هوى قياصرتها ، ومجدهم ، وبقى اسم المسيح ، وسيبقى إلى الأبد ، وقد أصدر السلطان عبد المجيد خان الفرمان الهمايونى فى شهر ديسمبر عام 1850 ، والذى أخذ به المذهب الإنجيلى فى مصر مركزه القانونى وقد نص فيه :  " عند وصول أمرى العالى الشاهانى  إليك ليكن معلوماً لديك أن طائفة النصارى من رعايا دولتى الذين تبعوا مذهب البروتستانت وسلكوا فيه  حيث أنهم لغاية الآن ليسوا تحت نظارة مستقلة وأن بطارقة ورؤساء مذاهبهم القديمة التى تركوها بالطبع لم يعد لهم أن ينظروا فى أشغالهم ولذلك حاصل لهم الآن بعض المضايقة والعسر ، وقد اقتضت أفكارنا الخيرية ومرحمتنا السامية الملوكية المشهورة فى حق كافة رعايانا من سائر الطوائف بأن لا ترضى عدالتنا الشاهانية بحصول التعب والاضطراب لأى طائفة منهم . وحيث أن المذكورين هم عبارة من جماعة متفرقة من سائر المذاهب ، وبقى لإصلاح أمورهم  والحصول على استتباب راحتهم ، تعيين وكيل لهم من طائفة البروتستانت ... وتباشرون جميع مصالحهم مثل سائر الطوائف من رعايانا ، ولذلك تسهلون لهم جميع ما يلزم لمحال عبادتهم ولا ترخصوا لأحد من الطوائف الأخرى أن يتداخل فى مصالحهم وأشغالهم الأهلية والدينية ، ولا يعارضهم أحد فى شئ من ذلك ... إلخ " ..

وقد شاء اللّه أن تأتى مقاومة إيليا للبعل وعشتاروث عن طريق المجاعة التى لابد أن تحل بالشعب بمنع المطر من السماء ، ... وكانت المجاعة أنسب أسلوب ليعرف الشعب من هو الإله الحقيقى ، ومن هى الآلهة الباطلة ،  .. فإذا كان البعل وعشتاروث يشيران إلى الخصوبة والإثمار ، ويعتبران السر وراء كل طعام وماء ، فإن أفضل الطرق لإثبات كذب هذا الادعاء هو افلاسهما ، وعجزهما عن أى مساعدة من هذا القبيل ، ... وفى الوقت عينه إعلان اللّه عن سخطه وغضبة ولعنته على التحول عنه وراء آلهة غريبة كما ذكر موسى فى سفر التثنية : " وتكون سماؤك التى فوق رأسك نحاساً والأرض التى تحتك حديداً ، ويجعل الرب مطر أرضك غباراً وتراباً ينزل عليك من السماء حتى تهلك " " تث 28 : 23 و 24 " وكان لابد أن تطول المجاعة ، حتى يحس بها الملك وإيزابل إحساساً عميقاً ، وأكثر من ذلك يحس بها الشعب ، حتى يدرك مدى الغضب الإلهى ، وضرورة العودة والرجوع إلى شخص اللّه !! ..

 إيليا والعناية الإلهية

وكان لابد لعناية اللّه أن تظهر وتعمل عملها مع إيليا فى قلب المجاعة ، وكان على إيليا نفسه أن يأخذ بعض الدروس من المجاعة ولعل أول هذه الدروس هو أن المصلح لابد أن يشارك الشعب الذي يحاول إصلاحه متاعبه وضيقاته وآلامه ، كان لابد لإيليا نفسه أن يجوع ، ويعيش حياة الشظف مع الآخرين ، وقد حق لأحدهم أن يتصوره يخرج  ذات يوم ليشرب من نهر كريت : " وكان بعد مدة من الزمان أن النهر يبس لأنه لم يكن مطر فى الأرض " ... " 1 مل 17 : 7  " .. وظل ذلك اليوم ظامئا ، وسار فى طريقه إلى أرملة صرفة صيدا ، ومن حديثه مع المرأة وطلبه منها أن تعمل له أولا كعكة صغيرة ،  نحس مدى  الجوع الذى وصل إليه ، ... ومع أن المجاعة لم تكن بسبب خطية ارتكبها هو ، أو أن اللّه قد تخلى عنه فى إحسانه وجوده ، لكنه مع ذلك كان لابد أن يكون شريكاً فى آلام قومه وشعبه ، وهى ضريبة المصلح فى كل العصور والأجيال ، ... والدرس الثانى الذى كان لابد أن يتلقنه ، هو الفرق بين الشجاعة والتهور ، فقد كان عليه أن يختبئ عند نهر كريت ، وقد تكون عناية اللّه مرات كثيرة بتخبئة المعتنى به من وجه الشر ، وقد خبأ اللّه إرميا من وجه الأعداء ، ورأى بولس عناية السيد ، عندما أنزل فى زمبيل من سور دمشق ، ... وهى العناية التى تملك الوسائل الطبيعية والمعجزية ، الظاهرة والخفية ، الكبيرة والصغيرة ومن الواجب أن نراها ونقبلها بالشكر  ولا يجوز قط أن تبعدنا هذه العناية عن الحكمة والواجب إلتماسها ، بدعوى أنه مادام اللّه معنا ، فلا يجوز أن نلجأ إلى هذا التحفظ أو غيره من الأساليب أو الصور ، ..

على  أنه يلزم أن نعلم ، على أية حال ، أن عناية اللّه فى المجاعات تستطيع أن تشق الطريق ، مهما كانت العوائق والحواجز ، ونحن نرى العناية هنا تسلك سبيلا عجيباً ، سواء فى الانتصار على الغرائز أو فى قلب الأوضاع رأساً على عقب ، ... وقد مد اللّه عنايته لإيليا أولا عن طريق الغربان التى كانت تأتيه بالخبز واللحم مرتين كل يوم صباحاً ومساء ، ... وهذه الطريقة المثيرة جعلت البعض يتصورون أن كلمة الغربان " يمكن أن تترجم " العربان أو رجال البادية الذين كانوا يمدون إيليا مرتين ، وقالوا إن الأصل العربى كالعبرى يصح معه مثل هذه الترجمة ، وهذا تفسير واه ضعيف ، وليس أقل ضعفاً منه ذلك التفسير بأن الكلمات رمزية تشير إلى أنه كان يأكل بوفرة فى المجاعة ، ... ولعل الصعوبة عندهم هى أن غريزة الغراب الأولى هى الخطف وأنه يأخذ ولا يعطى ، ... وهذا فى عقيدتى ، هو السر فى استخدام اللّه له ، ليثبت جلاله ومجده فى السيطرة على الغرائز ، فهو يعطيك من حيث لا تدرى وهو يفنيك بتغيير مجرى الغرائز فى العجماوات أو البشر على حد سواء ، وأنه يمكن أن يجعل القاسى ودوداً ، والشحيح سخياً ، والشره باذلا ، والآخذ معطياً ، ويده لا تقصر عن استخدام الجماد والحيوان والإنسان فى إتمام قصده ومشيئته ، ... فإذا تلقن إيليا هذا الدرس ، فإنه يعطيه درساً آخر ، ليؤكده من وجه ثان ، إذ ينقله من إسرائيل إلى صرفه صيدا ، الواقعة فى أرض أثبعل أبى ايزابل ، الأرض التى لا يمكن أن يخطر ببال إنسان أن إيليا يلجأ إليها ، ويأتيه المدد من امرأة أرملة أممية معدمة ، تقف على الخط الفاصل بين الحياة والموت ، لتقش عيداناً ، لتعمل لقمة تتبلغ بها مع ابنها ، ثم يموتان ... وهكذا تأتى العناية عن طريق الجائع المسغب الذى يهلك جوعاً ، وليس هناك من قلب للاوضاع فى الدنيا مثل هذا القلب ، فالرجل تعوله امرأة ، والمرأة ليست إلا أرملة ، والأرملة ليست إلا الفقيرة المعدمة التى لا تملك قوت الحياة !! .. ذهبت المرأة لتسعف إيليا بجرعة ماء ، وتعتذر عن تقديم كسرة خبز له ، وتكشف عن آخر مكانها مع اللقمة الباقية ، ولكن إيليا رجل اللّه مع ذلك يطلب ، ويطلب كعكة صغيرة أولا ، ... يريد أن يعلمها أن حق اللّه يسبق كل حق ، ... وأنك يوم تعطى اللّه ، ولو شيئاً صغيراً مما تملك ، فإنك ستعثر على سر ينبوع البركة وستعرف سيلا من الزيت لا يمكن أن ينتهى حتى تنتهى المجاعة من الأرض !!  .. عندما نقف أمام عناية اللّه ، ينبغى أن نلغى من الذهن البشرى كل مفهوم للحساب الأرضى ، وقواعده ، وأصوله ، وذلك لأن هذا الحساب يستطيع أن يعطى صورة جيدة للمنظور ، ولكنه يعجز تماماً عن أن يدخل إلى بحر غير المنظور ، ويقيم هناك حسابهن ، ... ولعل اللّه أراد أن يعطى إيليا درساً ثالثاً أبعد وأعمق من الدرسين السابقين ، ... فإذا بابن الأرملة يموت ، وإذا بالمرأة تعجز عن أن تفسر موته ، إلا أنه عقاب على خطايا سابقة ربما عملتها فى أيام الصبا ، ... سقط السلاح من يد المرأة ، وذهب  الولد الذى كان رجاءها وتعزيتها فى الأرض ، ... ورفض إيليا هذا المنطق ، فهو لا يعتقد أن اللّه يمكن أن يجازى المرأة هذا الجزاء ، ... وهو يصرخ إلى الرب بلغة من أغرب اللغات وأجرأها ، تلك التى يتعود أبناء اللّه الاتجاه فيها إلى سيدهم فى لحظات الضيق والشدة والألم : " أيها الرب إلهى أ أيضاً إلى الأرملة التى أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك إبنها .. يارب إلهى لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه " " 1مل 17 : 20 ت 21 " .

هل تستطيع أيها المؤمن أن ترفع كل تحفظ بينك وبين اللّه ؟ ، وهل تستطيع كابن اللّه أن تعبر بأعمق تعبيرات النبوة ، إلى الدرجة التى تقول فيها مع موسى : " فرجع موسى إلى الرب وقال يا سيدى لماذا أسأت إلى هذا الشعب ؟  لماذا أرسلتنى ؟ " " خر 5 :  22  "... ومع إيليا : " قد أسأت بإماتتك ابنها " .. !! ؟ ... ألا يقبل اللّه التعبير المخلص ، حتى ولو بدا خشناً قاسياً ! ... بلى ! إنه  عنده أفضل من التعبير المهذب المرائى ، الذى لا يتحدث بعمق الحب المتألم المخلص العميق !! ؟ .. إن اللّه يفضل أن نأتى إليه  بالإخلاص  ، مهما بدا هذا الإخلاص ضعيفاً أو خالياً من العبارة المصنوعة أو التعبير المتكلف ، ... إنه يريد أن تعانق روح المؤمن مع روحه فى الحب والألم والشركة المخلصة ، مهما كانت الظروف التى نعيش فيها !!  .. وسمع اللّه لإيليا وأرجع الولد ، ... الذى يقول تقليد - لا يعلم إن كان صحيحاً أو غير صحيح -  إن الغلام كبر ليكون يونان النبى الذى أرسله اللّه إلى نينوى الأممية ... على أنه على أية حال ، كان هذا النوع من العناية مقوياً ومشدداً للأرملة وللغلام ولإيليا ، ... وكان درساً خالداً فى كل الأجيال لكل الذين يتطلعون فى أرض الآلام والمتاعب والمجاعات ، إلى ينابيع العناية الإلهية التى لا تنضب . أو تنفد أو تفيض !!

 إيليا والمعركة على جبل الكرمل

ولعله من المناسب أن نذكر هنا ان إيليا لم يذهب إلى آخاب ، بل إن آخاب ذهب للقاء إيليا ، ... وهذا هو الفارق العظيم بين الرجلين ، أن إيليا يعلم أنه أعظم من آخاب ، بذات الصورة التى رأى فيها بولس نفسه وهو يقول للملك أغريباس : " كنت أصلى إلى اللّه أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط ، بل أيضاً جميع الذى يسمعوننى اليوم  يصيرون هكذا كما أنا ما خلا هذه القيود " " أع 26 : 29 " إن قيمة الإنسان الحقيقية لا تظهر فيما يملك من متاع أو ما يلبس من ثياب فاخرة ، أو ما يحيط به من الخدم أو الحشم ، أو مظاهر العظمة أو القوة ، إن قيمته الحقيقية  تكمن فى شخصيته ونفسه ، .

كان إيليا أشعر ، يتمنطق بمنطقة من جلد ، وعندما ركض أمام آخاب ، سار ما يقرب من ستة عشر ميلا على قدميه ، ... لم يكن له مركبة آخاب أو ثيابه أو بهاؤه أو مظهره ، ولكنها هذه جميعها ، ليست إلا الغلاف الذى يغطى الحمقى والأشرار فى الأرض !! ..  أما جوهر الإنسان ففى قلبه المرتبط باللّه ، وهو الذى يمكن أن يعطيه أعظم قيمة فى هذا الوجود !! .. وفى اللقاء بين الملك وإيليا كان  آخاب الإنسان الأحمق الذى غطت الخطية الحقيقة عن عينيه وقلبه ، ... فهو يرى الذنب كل الذنب فى إيليا : " ولما رأى آخاب قال له آخاب : أ أنت هو مكدر إسرائيل ؟ " "1مل 18 : 17 " .. وهو لا يستطيع أن يرى خطية واحدة فى نفسه ، أو فى الشعب الذى ترك اللّه ، .. أو عبادة البعل وعشتاروث التى كانت سر النكبة والكارثة والمجاعة !!! .. وهى الصورة الدائمة للبشر ، فهم يدفعون عن أنفسهم النتيجة : التى لابد أن تكون لخطاياهم ، ... وهى فى نظرهم  الظروف السيئة  أو أخطاء الآخرين أو القسوة التى لا مبرر لها من اللّه !!  ... ولم يخف إيليا من أن يضع الصورة الصحيحة للمأساة كلها إذ قال :  " لم أكدر إسرائيل، بل أنت وبيت أبيك ، بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم " " 1 مل 18 : 18 " ... وقاد إيليا الجميع إلى المعركة الفاصلة على جبل الكرمل .. وكان لابد من أن تدرك الأمة - عن بكرة أبيها - من هو الإله الحى الحقيقى وحده ، ومن هى الالهة  الزائفة الباطلة الكاذبة !!  ؟ والبينة على  من ادعى !! ؟ .. فإذا زعم إنسان أنه فيلسوف أو شاعر ، فالبرهان يظهر فى فلسفته أو شعره ، ... وإذا قال أنه رجل فإن أعمال الرجال تظهره ، وإذا ادعى أنه نبى مرسل من اللّه ، فإن أقوال النبى أو أعماله هى التى تشهد له !! .. وقد وقف إيليا وحده فى مواجهة ثمانمائة وخمسين نبياً للبعل وعشتاروث ، ولم تكن الكثرة دليلا على الحق أو الصواب الذى يزعمون أنه فى جانبهم، ... وأعطاهم إيليا الفرصة   الكاملة أولا دون أن يستطيع صراخهم أو جراحهم التى سالت من أجسادهم بسيوفهم ، والتى ظنوا أنهم يرضون الآلهة بها ، .. لم تستطع أن تعينهم فى شئ وسخر إيليا منهم سخرية الواثق بإلهه ، وكانت سخريته لاذعه ، فى قوله ك " ادعوا بصوت عال لأنه إله . لعله مستغرق أو فى خلوة أو فى سفر أو لعله نائم فيتنبه " .." 1 مل 18 : 27 " .. ومن الغريب أن هذا التحدى لم ينته بعصر إيليا ، فإن البعل يذهب ويجئ فى العصور كلها ، حيث يستبدل اللّه بآلهة غريبة ، أو كما قال أحدهم : " إن البعل العصرى هو ما يعبده الناس من ثروة أو شهوة أو جاه ، أو مجد عالمى أو راحة مادية ، ... وهم يضعونها فى مواجهة البر والأمانة والحق وكل ثمار الروح القدس فى الإنسان الباطن " !! ..

وإذ عجز الأدعياء عن أن يثبتوا ادعاءهم ، تقدم هو ورمم بالاشتراك مع الشعب مذبح الرب المنهدم ، وقدم الذبيحة بما لا يدع مجالا للشك أو التساؤل أو الخداع ، إذ أنه لم يرتب الحطب والذبيحة فقط ، بل صب ماء كثيراً حتى لا يقال إن النار المشتعلة حدثت عن طريق خداع بشرى ، وأبصر الشعب جميعاً النار التى أتت من السماء لتلتهم كل شئ . على أنه من الملاحظ أن النار لم تنزل إلا بعد صلاة النبى ، وهكذا فى كل حين يشجع اللّه أبناءه ليحسوا بكيفية اختبارية بينه وبين العالم ، وهو مستعد أن يظهر ذاته لهم وللعالم أجمع ، بصورة لا تحتمل اللبس أو الإبهام !!  .. ألم يقل عرافو فرعون أمام ضربة البعوض : " هذا إصبع اللّه "  "خر 8 : 19 " ... وإذ رأى الشعب المعجزة بلغ بهم الانفعال ذروته وسجدوا على وجوههم أمام اللّه ، واشتركوا مع إيليا فى ذبح أنبياء البعل على نهر قيشون !!  .. ومع أن هذا الانفعال كان قصيراً ووقتياً ، إلا أنه - على أية حال - عرف الجميع من هو الإله الحق ، ومن هى الآلهة الباطلة !! ..

 إيليا وآخاب عند كرم نابوت اليزرعيلى

بعد أربع سنوات أو خمس من القضاء على أنبياء البعل ، عاد إيليا ليلتقى  بآخاب عند كرم نابوت اليزرعيلى ، وكانت يزرعيل إلى الشمال من السامرة بما يقرب من العشرين ميلا ، وعاد الشر إلى جولة أخرى مع الخير ، وآخاب يزداد سوءاً ومصيره يزداد بشاعة ، وذهب آخاب إلى الكرم ليرثه ، والتقى به إيليا هناك ، ليقول له : " هل قتلت وورثت أيضاً ؟ " "1مل 21 :  19 " . ويا له من ميراث رهيب ! " ... والحقيقة المحزنة هى أن الميراث الرهيب من الجائز أن يصل إليه الإنسان فى أرض الفساد والظلم ، رغم كافة  الحواجز التى يمكن تجاوزها أو تجاهلها أو تخطيها بكل قوة وعنف..

طلب آخاب كرم نابوت لكى يحوله إلى بستان بقول ، وقال له إنى مستعد أن أعطيك ثمنه أو كرماً أحسن منه ، وكان يمكن لنابوت أن يرضى لولا أن الشريعة تمنع ذلك إذ لا  يجوز لإنسان أن يتصرف فى ميراث آبائه ، وأغلب  الظن أنه قال  للملك : " كان بودى أن أفعل ذلك ، ولكن أمر اللّه يمنعنى من التصرف فى أرض الميراث " ، وذهب آخاب إلى  بيته مغموماً " وامتنع عن الطعام ، ونام محزوناً كئيباً ، وإذا بإيزابل تأتى إليه وتستفسر عن سر حزنه ، ثم تسخر منه لأنه وهو ملك لا يستطيع أن يزيل عقبة كهذه ، وأمكن للملكة  عن طريق الشر أن تحصل على الكرم ، هذا هو الفصل الأول من القصة ، ... وهو فصل يتكرر كثيراً فى الحياة . . قال السيد : " لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذى يؤدى إلى الهلاك . وكثيرون هم الذين يدخلون منه " مت 7 : 13 ".. إن طريق الشر واسع ميسور فيمكن أن تحصل علي ما تريد ، ولا يحتاج الأمر إلا إلى كذبة أو غش أو خداع أو تدليس ، أو شئ يعمل فى الظلام . وقد ينجح الشر فى الجولة الأولى من المعركة ، ولكنه هيهات أن يكسب المعركة الأخيرة .. يقول المرنم : " لا تغر من الأشرار ولا تحسد ععمال الإثم ، فإنهم مثل الحشيش سريعاً يقطعون ، ومثل العشب الأخضر يذبلون !! .. "مز 37 :  1 و 2 "  ومع أن الميراث الرهيب أمر ممكن وجائز فى الأرض ، إلا  أنه تلحق به حقيقة أخرى ، أنه دائماً مخجل ، .... واعتقد أن آخاب أحس الكثير من الخجل وهو فى طريقه إلى الكرم لرؤياه .. لقد اكتشف فيه نفسه ، واكتشف فى هذه النفس أشياء كثيرة تنكس الرأس . لقد اكتشف طمعه ، وكذبه ، وظلمه ، .. كان آخاب ملكاً يملك أعظم القصور والبساتين ، وكانت لديه بساتين وكروم متعددة ، ولكن هذه لا تساوى شيئاً طالما هو غير مستطيع أن يحصل على كرم نابوت !! يا للنفس البشرية التى لا تشبع ، والتى تتريد أن تأخذ لنفسها كل شئ!!  . إننا نقيس أمورنا لا على حساب حاجاتنا ، بل على حساب جيراننا ، إذ لا أريد أن  يظهر مجد إلى جانب مجدى ، أو سلطان إلى جانب سلطانى ، أو نفوذ إلى جانب نفوذى ، وكل بساتين الدنيا أو كرومها لا تساوى البستان الصغير الذي يملكه جارى،... يا له من طمع مخجل ! .. بل يا له من ميراث قبيح !  ذاك الذي لا أستطيع الحصول عليه إلا بالكذب والخداع والغش .. نادوا بصوم ، والمناداة بالصوم لا تحدث إلا إذا حدث أمر رهيب ، والأمر الرهيب أن نابوت جدف على اللّه والملك ، فياله من مجرم ، ويا لها من خطية شنيعة ، وها اثنان يشهدان أمام الشيوخ ، وها المحاكمة كلها تتم فى جو من الكذب ، وآخاب يعلم ويطأطئ رأسه خجلا ، بل هو يعلم أنه حصل على هذا الميراث بغير حق أو عدل ، بل حصل عليه بظلم صارخ ، .. ما أكثر الذين يأخذون من الناس مواريث متعددة ، ولكنهم يدفعون فى سبيلها أثمان باهظة ، إذ يدفعون المبادئ الروحية والأدبية : يدفعون الحق والشرف والكرامة والنبل والإباء والعدالة !!  ، وهل تستحق كروم الدنيا كلها - لا كرم نابوت فحسب - هل تستحق أن يدفع فيها مثل هذا الثمن ؟!!  ... فإذا أضفنا إلى هذا كله ، أن الميراث كان ميراثاً مقلقاً !!  .. ذهب آخاب ليستمتع بالكرم الذي ورثه ، ولعل الكرم كان جميلاً ظليلا ، وكانت عناقيده حلوة ولذيذة ، وكان موقعه بديعاً ، وآخاب يستطيع أن يملأ نظره منه ، ويفيء إليه سعة الحر والهجير ، بل يستطيع أن يأكل منه ما يشاء دون أن يمنعه أحد ، فهل استراح الملك وأكل ؟  ، لقد أضحت الظلال ظلاماً ، والعناقيد علقماً ، والكرم سجناً رهيباً ، إذ سمع صوت اللّه العادل هناك : !! هل قتلت وورثت أيضاً " !! لقد ظهر نبى اللّه فى لحظة السرور والبهجة والتمتع ، .. يقولون إنه قبل أن يذهب إلى الكرم ثار عليه ضميره ، وحاول إسكاته بالقول : لم أصنع شيئاً !! ؟ فأنا لم أحاول اغتصاب الكرم .. لقد عرضت  عليه ثمناً سخياً فأبى !! .. لقد عرضت عليه كرماً آخر أحسن منه مقابله فرفض .. ولم  أفعل أنا شيئاً ضده ، فلم أتدخل فى الأمر ، بل تدخل غيرى ، كما أنه يستحق الموت لأنه عصى أمر مليكه ، ولكن صوت اللّه جاءه لينسب إليه القتل كيفما كان ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة !!  .. فالرضا على الظلم ، هو بعينه الظلم ، والقتل بأمر آخاب أو بأمر إيزابل أو بأمر الشيوخ ، هو الدم الذي يتحمله آخاب أولا وأخيراً !! ..

لم يتمتع الرجل بالكرم كما كان يشتهى ، لأنه فى قلب الكرم سمع عن مصيره المفجع ، ومصير بيته ، ولولا أنه اتضع ومزق ثيابه وصام ، لجلب اللّه عليه العقاب سريعاً ، ولكن  بقية من رحمة اللّه آتية فلم يحدث كل الشر فى حياته ، ولو أنه تاب مع إيزابل لنجيا ، ولكنها لم تتب ، فدمرت بيتها بيديها وأضحت قصتها مثلا تذكره الأجيال بالخوف والفزع والرهبة !! .. قيل إن أحد ملوك انجلترا أراد مرة أن يستولى على حديقة كنيسته ليكمل بها قصره ، فسأل رئيس الوزراء : كم تكلف هذه الحديقة .. فأجابه: إنها تكلف ثلاثة تيجان .. تاج انجلترا ، وإيرلندا ، واسكتلندا ، أى أن محاولة أخذها ستقلب العرش ، وكان هذا كافياً لإقلاع الملك عن فكرته !! .. أجل " مخيف هو الوقوع فى يدى اللّه الحى !! .. " عب 10 : 31  " ..

 إيليا والمركبة السماوية

من المعتقد أن خدمة إيليا استمرت حوالى عشرين عاماً ، كانت الخمسة عشر أو الستة عشر عاماً الأولى منها عاصفة ، ممتلئة بالثورة والصراع ، وهو أشبه بالخادم الميثودستى ، الذي اشتكوا من صوته الصارخ فى المنبر ، وإذ به يجيبهم : "  أنا لا أغنى لتنويم الأطفال ، بل أنا أحطم الصخور " . وكانت رسالة إيليا تحطيم صخور الوثنية والشر التى ملأت كل مكان . ..   ومع أننا نعلم أنه أصيب بصدمة قاسية غداة قتل أنبياء البعل ، وهى رد الفعل للنجاح العظيم فوق جبل الكرمل ، إذ أن إيزابل هددته بالقتل ، .. ولم يجد من الشعب الذي آزره فى ذبح الأنبياء الكذبة ، ما يشجعه على مواجهة الشريرة الطاغية ، التى مازالت تمسك بزمام الأمور فى الأمة كلها ، كان إيليا تحت الرتمة شيئاً يختلف تماماً عن إيليا فوق جبل الكرمل ، وهى النفس البشرية المتلونة والتى لا تثبت على حال ، فهى تارة فى أعلى جبال الشركة مع اللّه ثم لا تلبث أن تهوى تارة أخرى إلى بالوعة اليأس ، .. ولكن شكراً للّه ، الذي أرسل ملاكه إليه تحت الرتمة ، دون أن يناقشه فى شئ ، فقد كانت نفسه ممتلئة بالمرارة والأسى واليأس والقنوط ، والتوتر يملأ عواطفه ، والانفعال لا يعطيه أية فرصة للمناقشة الهادئة الساكنة ، وكان علاج اللّه لنفسه أن يطعمه ويريحه ، حتى يهدأ ويسكن ، قبل أن يتكلم إليه أو يحاجه أو يسأله . .. وهى الحكمة الإلهية التى ينبغى أن نتعلم منها ، كيف نعالج الثورات النفسية عند الآخرين " فالأفضل أن ننتظر ، حتى تستريح أجسادهم ونفوسهم ، قبل أى حديث أو مناقشة ، .. كان عمل اللّه الوحيد أن يطعم إيليا ويريحه ، وينتظر أربعين يوماً قبل إن ينقاشه على جبل اللّه حوريب قائلا : " مالك ههنا يا إيليا ؟ . "" 1مل 19 : 9 ".

ومن  الغريب أنه فوق جبل اللّه حوريب فى سيناء أدرك إيليا الحقيقة التى غابت عنه طويلا ، إن الصوت المنخفض الخفيف ، وليس صوت الريح أو الزلزلة أو النار ، هو الأكثر تأثيراً وقوة وفاعلية ، إن الثلاثة الأصوات الأولى ليست فى حقيقتها ، سوى المهد للصوت الأقوى والأعمق والأبعد أثراً ، صوت الحب والحنان والرحمة والإحسان والجود والغفران ، أو فى لغة أخرى هو صوت الصليب ، الصوت الذى تحدث به موسى وإيليا مع المسيح فوق جبل التجلى : " وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا ، اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذى كان عتيداً أن يكمله فى أورشليم " " لو 19 : 30 و 31 " لقد أهلك اللّه العالم بالطوفان أيام نوح ، وأباد اللّه سدوم وعمورة بالنيران ،  وذبح إيليا أنبياء البعل ، ومع ذلك فالخطية لا تزال تفتك بالبشر ، وهى فى حاجة إلى أصوات أخرى أفعل من العواصف والزوابع والنيران والزلازل ، إنه صوت اللّه المنخفض فى الصليب ، ... وعاد إيليا إنساناً من حوريب يختلف ، إلى حد بعيد ، عما كان عليه أولا ، يمسح حزائيل ملكاً على آرام ، وياهو بن نمشى ملكاً على إسرائيل ، وأليشع بن شافاط نبياً عوضاً عنه ودخلت إلى حياته حلاوة أعمق وأجل ، ... وأضحى أشبه بشجرة عنب فى إنجلترا ربما هى أكبر شجرة من نوعها ، وهى قديمة ، وقد لاحظ أحدهم أن عنبها أصغر من المعتاد ، وسأل لماذا يبدو حجم الحبة من العنب أصغر وأجابة البستانى : إنه أصغر لأن الشجرة قديمة عجوز ، ولكن لا يوجد ما هو أحلى من هذا العنب على الاطلاق ، " .

عاش إيليا سنواته الأخيرة أهدأ وأجمل وأقوى ، وأخذ يشرف على مدارس الأنبياء،... وجاء اليوم الذى وصفه جوزيف باركر كدرس من أعظم دروس العناية ، وهو : " لا متى يذهب إيليا ، بل متى يأخذه اللّه الذى يعلم متى تنتهى خدمتنا ورسالتنا " أو فى لغة أخرى : إن اللّه يعلم متى يأخذنا إلى حقل آخر أعظم وأجمل ، وإلى فرصة أوسع : " من عشرة أمناء إلى عشر مدن " ... وها نحن نرى الرحلة الأخيرة لإيليا فى الأرض ، التى تنقل فيها من الجلجال إلى بيت إيل إلى أريحا ، أو قرابة ثلاثين ميلا " وأغلب الظن أنه كان يريد زيارة ثلاث مدارس للأنبياء هناك ، ويتزود بالنظرات الأخيرة للارض التى أحبها وخدم فيها ، قبل أن يصعد إلى السماء ، وقد لازمه ورافقه فى الرحلة أليشع ، وأبى أن يتخلى عنه البتة ، رغم أن إيليا ألح عليه أن يبقى حيث هو،... ونحن  نسأل لماذا أراد إيليا أن يمكث أليشع فى المكان الذى كان فيه !! ؟  هل لأنه كان لا يريده أن يتخلى عن عمل كان يقوم به عند بدء الرحلة !!  ... أم لأنه أراده أن يكون بين بنى الأنبياء فى واحدة من المدارس الثلاث !! ؟ ... أم لأنه كما هو الأرجح أراد أن يختبر معدنه وصلابته ، قبل أن يرحل عنه ، وفى الوقت عينه أن يختلى باللّه الذى سيذهب إليه بعد قليل !! ... على أية حال لقد أصر أليشع على مرافقته، كما ينبغى للخادم الأمين أو الصديق الوفى ، أو الجندى الذى أوشك أن يحمل العلم ليؤدى الرسالة الموضوعة عليه ، ... وها نحن نراهما الآن يصلان إلى الأردن ، ويلف إيليا الرداء ويشق الأردن به ، ويعبر كلاهما ، ويسأل المعلم تلميذه ماذا يريد قبل أن يؤخذ منه !! ؟ ويصر التلميذ على أن يقف من المعلم موقف الابن البكر الذى يأخذ نصيب اثنين حسب الشريعة الإسرائيلية ، ولما لم يكن  لايليا شئ من متاع الأرض ، ولما كانت الطلبة روحية ، قــال له إيليــــــــا : " صعبت السؤال " !! ... " 2 مل 2 :  10 " وذلك لأن الطلبات الروحية ، عطية من اللّه ، وليس هبة من إنسان !! ... وهى تؤخذ بالعين الروحية المفتوحة ، فإن رآه يؤخذ منه ، كان هذا دليلا على أن اللّه سيعطيه هذا النصيب ، نعود فنشير إلى أن أليشع لا يقصد أن يكون له ضعف ما كان إيليا ، بل أن يأخذ نصيب البكر من الأولاد ، ... وفتح اللّه عينى إليشع ، وسقط رداء إيليا عنه ، فأخذه وأخذ نصيب إثنين من روحه ، بعد أن مزق ثيابه ، " وهو يصرخ يا أبى يا أبى مركبة إسرائيل وفرسانها " ، " 2مل 2 : 12 " وهو كما أشرنا أولا لم يره فرداً واحداً ، بل جيشاً عرمرما ، والقائد المسيحى الغيور الشجاع سيبقى دائماً هكذا ، سواء فى الدفاع أو الهجوم لمجد اللّه ، ... ومع أن إبراهيم ، وداود ، وايليا ، وبولس ، وأثناسيوس ، ولوثر وويسلى ، وأمثالهم - لا يظهرون إلا نادراً فى موكب العصور ، لكننا نصلى لعل واحداً  منهم يظهر فى أيامنا هذه فى عظمة الأبطال الخالدين ، ويمكن أن نقول قبل أن يؤخذ منا فى مركبة السماء : " يا أبى  يا أبى مركبة إسرائيل وفرسانها"

 

 

أشعياء

" فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد " ( إش  6  : 1  )

 

كان إشعياء واحداً من أعظم عمالقة التاريخ ، وسفره هو الأول بين ما يطلق عليها ) سفار الأنبياء الكبار) ، ولا تستطيع أن تقرأ سفره دون أن ترتقى الهضاب العالية ،  وتمد بصرك إلى الآفاق البعيدة التى تجتـــــاز العصــور والأجيـــال ، وتأتى إلى آخر الأيام فى الرؤى المذهلة العجيبة ، ... أليس هو الرجل الذى بدأ نبوته بذلك المنظر المهيب للسيد وهو جالس على كرسيه العالى والمرتفع ، وأذياله تملأ الهيكل ؟؟  .. ومن ذا الذى يمكن أن يرى السيد فى مجده العظيم ، والملائكة واقفون بين يديه ، دون أن يحس بحاجته إلى الارتقاء إلى أعلى مقام عن هذه الأرض ، ليخشع فى فزع قائلا : « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين ، لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6 : 5 " .. وأليس هو الرجل الذى طوى مئات السنين ، ونقلنا فى الأصحاح الثالث والخمسين إلى هضبة الجلجثة ، لنرى دقائق  الصلب وتفاصيله ، كمن يراها رؤيا العيان ، ويكتب عنها من تحت الصليب ، ... وأليس هو النبى الذى اخترق  حجب المستقبل القريب والبعيد ، فأوقفنا على هضاب آيته لاحقة لتاريخه ، ... فرأينا كورش يجتاح الممالك ، ويطويها ، ويسقطها تحت قدميه ، ويعطيه اللّه اسمه قبل أن يولد بمائة وخمسين عاماً ، ... ولم يكن كورش إلا رمزاً لذلك الذي خرج غالباً ولكى يغلب ، والذى يقود أعظم المعارك فى الأرض ،  ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم ... فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل ، ... ولا يتعلمون الحرب فيما بعد »  "إش 2  :  2 - 4 " لأنى هأنذا خالق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال » " إش 65 :  17 " .

ولعلنا نتأمل الآن هذا الرجل العظيم من فوق هذه الربى والهضاب العالية لنراه مع سفره ونبواته وهو يحدثنا فيما يلى :

 إشعياء من هو !! ؟ 

الاسم « إشعياء » يعنى « خلاص يهوه » أو « خلاص الرب » وهو ابن « آموص » أو « القوى » وقد أطلق على زوجته « النبية » وربما كان القصد فى ذلك أنها زوجة النبى ، وإن كان البعض يظن أنها كانت تملك موهبة النبوة ، وقد ولد له ولدان اسم الأول « شآر ياشوب » أو « بقية سترجع » ولعل القصد من ذلك رجوع البقية من السبى ، أو رجـــــوع البقــــية إلى اللّه برسالـــة إشعياء ، والثانى : « مهير شلال حاش بز »  ويعنى « سلب يعجل خراب يسرع » والمقصود بذلك أنه على قدر السرعة فى جمع الأسلوب ونهبها ، على قدر ما يأتى الخراب  المعجل ، ... وقد أوضح  النبى أن نبوته جاءت فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا ، ومن المعتقد أنه ولد قبل موت عزيا بعشرين عاماً على الأقل ، وإذا صح التقليد القائل بأنه مات منشوراً على يد منسى الملك ، فمن المتصور أنه عاش حتى بلغ التسعين من عمره أو ما بين عامى 780 ، 690 ق.م. ومن الجدير بالذكر أنه فى ذلك التاريخ بنيت مدينة روما ، والتى كانوا يطلقون عليها « المدينة الخالدة » وقد عاش إشعياء على مر الأجيال والتاريخ أكثر عظمة وجلالا وخلوداً ، ... وفى تصور الكثيرين أن إشعياء كان ينتسب إلى البيت الملكى ، وأنه على أية حال كانت له المكانة التى تجعله يعطى المشورة للملك آحاز ، والذى لاذ به الملك حزقيا أمام غزوة سنحاريب للبلاد ، وحصاره لأورشليم ، ومن الثابت أنه كان شجاعاً حازماً ، لا يعرف المداورة أو المهادنة  فى كل ما يتصل بالدين ، ... يستوى عنده فى ذلك الملك أو غير الملك ، ألم يقل للملك آحاز : « اسمعوا يا بيت داود . هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهى أيضاً » " إش 7 : 13 " وقال للملك حزقيا : اوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش » " إش 38 : 1 " ، هوذا تأتى  أيام يحمل  فيها كل ما فى بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل . لا يترك شئ يقول الرب » " إش 39 :  6 " وقد صور إسرائيل فى مرتبة أدنى من الحيوان فى مطلع سفره « الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه . أما اسرائيل فلا يعرف شعبى لا يفهم . ويل للأمة الخاطئة الشعب الثقيل الإثم نسل فاعلى الشر أولاد مفسدين » . " إش 1 : 3 و 4 " « كيف صارت القرية الأمينة زانية » " إش 1 :  21 "  « لأنه شعب متمرد أولاد كذبة » .. " إش 30 :  9 " ومع هذه الشجاعة الحازمة كان رفيق القلب شديد الحدب والعطف ، ويكفى أن نراه يقول : « لذلك  قلت اقتصروا عنى فأبكى بمرارة . لا تلحوا بتعزيتى عن خراب بنت شعبى » "إش 22 : 4 "  بل لعله  كان يبكى تجاه آلام الآخرين ، حتى ولو كانوا من الأمم ، وهو القائل عن موآب :  « يصرخ قلبى من أجل موآب » " إش 15 : 5 "« لذلك أبكى بكاء يعزير على كرمة سمة أوريكما بدموعى ياحشبون وألعالة » . " إش 16 : 9 " كان يندد بالخطية أشد تنديد ، وفى الوقت نفسه يبكى على الخطاة ، ... ومن الجانب الآخر كان فرحه عظيماً بالأمم التى تجرى إلى اللّه : « ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليـــه كل الأمم »" إش 2 : 2"« ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجـداً »  " إش 11 : 10 "« فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجئ الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعد المصريون مع الأشوريين فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة فى الأرض بها يبارك رب الجنود قائلا مبارك شعبى مصر وعمل يدى آشور وميراثى إسرائيل » "إش 19 : 23 - 25 " . لم يكن الرجل ضيق الأفق ، محدود النظرة ، تمتلكه نعرة الجنس ، تحجب رؤياه عن العالم الواسع الذى لا حياة لهن بدون اللّه ، ... على أن هذا لا يعنى أنه لم يكن غيوراً لوطنه ، متحمساً له ، يهتم بالدفاع عنه ورعايته ، لقد كان وطنياً من طراز ممتاز ، وهو القائل لآحاز : احترز واهدأ . لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبى هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وابن رمليا » " إش 7 : 4 " .. كما قال لحزقيا : « هكذا يقول الرب إله إسرائيل الذى صليت إليه من جهة سنحاريب ملك آشور هذا هو الكلام الذى تكلم به الرب عليه : احتقرتك استهزأت بك العذراء ابنة صهيون . نحوك أنغضت ابنة أورشليم رأسها » "إش 37 : 21 و 22" .

وكان إشعياء ، مع ذلك ،  رجلا عميق التعبد والاحترام للّه ، ... ولعل الرؤيا التى رآها فى الهيكل ، تركت طابعها العميق فى حياته بجملتها !! .. وهو لا يرى هذا التعبد فى مجرد العبادة الشكلية والطقسية أو الظاهرية ، فالذبائح لا قيمة لها : « لماذا كثرة ذبائحكم يقول الرب . اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر »  " إش 1 : 11" والاهتمام بأيام معينة فى نظره باطل وكذب : « رأس الشهر والسبت ونداء المحفل لســــت أطيق الإثم والاعتكاف » " إش 1 : 13 " كما أن الهيكل فى حد ذاته لا معنى له : « هكذا قال الرب : السموات كرسى والأرض موطئ قدمى . أين البيت الذى تبنون لى وأين مكان راحتى » " إش 66 : 1 " إن العبرة عند اللّه بالحياة الروحية العميقة فى روح الطاعة : « إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض » "إش 1 : 19" وحياة البر وخوف اللّه : « وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامى » "إش 66 : 2 " كان إشعياء يعيش على الدوام أمام اللّه العلى : « لأنه هكذا قال العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه . فى الموضع المرتفع المقدس أسكن ، ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيى روح المتواضعين ولأحيى قلب المنسحقين » "إش 57 : 15 " « أدخل إلى الصخرة وأختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته » " إش 2 : 10 "... ولا حاجة إلى القول بأن الرجل كان شديد الثقة باللّه ، كامل الاعتماد عليه ، ومن ثم كان يرفض تماماً التحالف مع آشور أو مصر ، ... وقد قاوم مثل هذا التحالف ما وسعته المقاومة سواء فى حياة الملك آحاز أو الملك حزقيا ، ... ومع أن مصر واشور كانتا الدولتين العظميين ، قبل أن تظهر بابل فى الأفق ، ... إلا إنه كان يعتقد بحق ، أن الإيمان باللّه وحده ، هو الذى يعطى الإنسان اطمئنانه الكامل ، وسلامه الدائم ، ... وأن الدول المتحالفة إذا أعانت بعض الوقت ، فسيلحقها العجز بعد ذلك ، وتضحى عبئاً ، لا عوناً ، وأكثر من ذلك إنهاء تحول المتحالف معها إلى فريسة يمكن أن تبتلعها متى أتيحت لها الفرصة ، وسنح الوقت !!  .. وقد كان الرجل صادق المشورة فى هذا المجال ، بل كان واثقاً من النتيجة عندما استمع حزقيا الملك ، وقد أدرك هذا الاختبار ، فتعاون أولا مع آشور ، ثم عاد ليواجهها معتمداً على اللّه ، ... وسقط عند أبواب عاصمته زهرة الجيش الأشورى مائة وخمسة وثمانون ألفاً من الجنود فى ليلة واحدة !! ..

ومن المسلم به أن إشعياء كان واسع الثقافة ، بلغ السمت والقمة بين الأنبياء ، فلم يتفوق عليه أحد منهم من الوجهة الإنسانية . فى فخامة اللفظ ، وجلال التعبير ، ورصانة الأسلوب ، ... وقد قيل أنه لم يبره أحد قط منهم فى الجمع بين فخامة العبارة ، ودسامة التفكير ، إذ لم تكن فصاحته على حساب المعنى ، أو معناه على حساب التعبير الجزل الجميل !! ...

ولم يكن عند الرجل رتابة فى الأسلوب أو قصور فى المنطق ، بل تحس وأنت تقرأ سفره أنك تسير بين أعلى القمم وأعمق الوديان ، ... ولعل هذا كان الباعث الأكبر عند عدد من النقاد ، إلى الزعم بأن هناك أكثر من إشعياء فى كتابة السفر ... وقالوا إن هناك إشعياء الأول والثانى وربما الثالث .. لأنهم تصوروا أن شخصاً واحداً لا يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا السفر العظيم فى أصحاحاته الستة والستين !!  .. ومع أن التاريخ اليهودى أو الكنسى ، كان فيه ما يشبه الإجماع على أن إشعياء وحده هو كاتب السفر ، ولم يشذ عن هذا الإجماع ، سوى بن عزرا فى القرن الثانى عشر الميلادى ، والذى قال إن الأصحاحات من الأربعين إلى الستة والستين ربما لا تكون من عمل إشعياء ،  ولم يجاره فى الكنيسة المسيحية سوى كاتب ألمانى اسمه كوبى ( Koppe)  الذى زعم أن هذا الأصحاحات كتبت على الأغلب بعد السبى البابلى ، وتمشى فى إثره بعد ذلك ، من تمشى من النقاد ، وحجتهم فى الغالب أن الإصحاحات الأخيره المشار إليها ، كتبت كما لو كان السبى البابلى حقيقة قد وقعت ، وأن إشعياء ( الثانى كما يزعمون ) لم يكن قد ولد عندما جاء كورش ، وأن قرابة مائة وخمسين عاماً أو تزيد ، كانت لابد أن تمر قبل أن يأتى ذلك الملك العظيم المشار إليه فى إشعياء !! وأن الأسلوب فى الجزئين من السفر شديد التغير ، مما يحتمل معه أن شخصاً مجهولا يمكن أن يطلق عليه إشعياء الثانى كتب الأجز اء  الأخيرة من السفر بعد السبى ، وضمت إلى إشعياء !! . وقد بلغ التصور عند نقاد آخرين إلى أن سبعة من الكتاب اشتركوا فى كتابة هذا السفر ، وليس مجرد إشعياء ثان فقط !!  ... على  أن أعظم علماء الكتاب قد قاوموا هذا التصور مقاومة حادة ونادوا بوحدة السفر ونذكر منهم فى ألمانيا ... جاهن ، وهستنبرج ، وكلينرت ، وهافرنك ، وستاير ، وكايل ، وديلتش ، ورينو شمعان ، ... وفى إنجلترا ، هندرسون ، وهاكستبيل ، وكاى ، ويورك ، ودين باين سميث ، وبروفسور بركس ، وبروفسور ستانلى ليسز ... وقد بنى هؤلاء وغيرهم ، وحدة السفر على أسس خارجية ، وأخرى داخلية ، ... أما الخارجية فتظهر من أن الترجمة السبعينية وهى الترجمة المعروفة من سنة 250 ق .م. تنسب الكتاب كله لإشعياء بن آموص ، وابن سيراخ الذى عاش حوالى سنة 180 ق.م لا يتردد فى نسبة الأجزاء الأخيرة إلى إشعياء ، ... كما أن مخطوطات وادى قمران ، وهى أحدث مخطوطات اكتشفت عام 1947 ق.م. بقرب البحر الميت ويرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الأول والثانى قبل الميلاد يظهر فيها سفر إشعياء كاملا منسوباً إلى إشعياء بن اموص !!  كما أن اقتباسات العهد الجديد والسيد المسيح والرسول بولس ، تظهر دائماً منسوبة إلي إشعياء ، فقد جاء فى الأصحاح الثالث من إنجيل متى : « فإن هذا هو الذى قيل عنه بإشعياء النبى القائل صوت صارخ  فى البرية » ... " مت 3  :  3 " وفى إنجيل لوقا الأصحاح الرابع قيل عن السيد المسيح : فدفع إليه سفر إشعياء النبى ، ولما فتح السفر وجد الموضع الذى كان مكتوباً فيه روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين .. الخ " لو 4 : 17 و 18 " وفى إنجيل يوحنا فى الأصحاح الثانى عشر : « ليتم قول إشعياء النبى الذى قاله يارب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب » " يو 12 : 38 "وقول بولس فى الأصحاح العاشر من رسالة رومية : « لأن إشعياء يقول يارب من صدق خبرنا ... ثم إشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبونى .. إلخ » " رو 10 : 16 و 20 " أما عن تنوع الأسلوب ، من الواجهة الداخلية ، فما لا شك فيه ، أن شاعرية أو عبقرية إشعياء ، إذا جاز هذا التعبير ، وتمكنها من ناصية المنطق والبلاغة ، يمكنها أن تسمو وتبسط ، دون أن يكون هناك مساس بالكاتب الواحد ، ومن ثم فنحن نرى رغم هذا التنوع ، الفكر الواحد المطبوع ، فاللّه السيد الذى رآه : « جالسا على كرسى عال ومرتفع وأزياله تملأ الهيكل " إش 6 :  1 " .. هو نفسه : « العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه » " إش 57 : 15 " .. والشعب الذى وصف بالتمرد والعصيان : « ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا علىّ» " إش 1 : 2 " .. « فإنك رفضت شعبك بيت يعقوب لأنهم امتلأوا من المشرق » " إش 2 : 6 " .. « ذكرنى فنتحاكم معا ، حدث لكى تتبرر ، أبوك الأول أخطأ وسطاؤك عصوا علىّ » " إش 43 : 26 ، 27 " كما أن اتساع النظرة وإعطاء الفرصة للأمم ، قد جاءت فى أول السفر وآخره ، ويكفى أن نشير هنا : « فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدى والعجل والشبل والمسمن معاً وصبى صغير يسوقها . والبقرة والدابة ترعيان . تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان . لا يسوؤون ولا يفسدون فى كل جبل قدسى لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطى المياه البحر» " إش 11 :  6 - 9 " .. « الذئب والحمل يرعيان معاً والأسد يأكل التبن  كالبقر . أما الحية فالتراب طعامها . لا يؤذون ولا يهلكون فى كل جبل قدسى قال الرب » " إش 65 : 25 "..

فإذا قيل آخر الأمر كيف يمكن أن يكون الحديث عن السبى البابلى كأمر واقع ، وإن يذكر اسم كورش الفارسى الذى لم يأت بعد ، .. كان الرد ميسوراً : أن نبوات إشعياء ترى النهاية  منذ البداءة « لأنه معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله » " أع 15 : 18 " .. وقد تحدثنا عندما تعرضنا لشخصية يربعام كيف أن النبى تنبأ عن يوشيا الملك الذى سيأتى ويذبح كهنة المرتفعات ويحرق عظامهم ، قبل ولادته بزمن طويل ... وقد امتدت النبوة إلى هضبة الجلجثة لتصفها بدقة ، كما لو كان الواصف ينظر إلى الصليب بمرأى عينيه ، وقد سار الرجل بنا إلى آخر الأيام ، لنرى الصورة اللامعة للأرض بعد أن تتحرر من الخطية والدنس !! ..

والحقيقة أن السهم القاتل لنظرية إشعياء الثانى يكمن فى أن الآخذين بها ، حاولوا حل الصعوبة ، بصعوبة أفدح وأقسى إذ كيف يمكن التصور منطقياِ ، أن هذه الأصحاحات الأخيرة من سفر إشعياء بما فيها من أروع النبوات أو التعاليم ، تصدر عن نبى مجهول ، جاء بعد السبى ،  ولا يعرف الناس عنه شيئاً ، ويعلن هذه الروائع ، ويكتبها ، ويغيب فى التاريخ من غير علم أو دراية من أحد !!  .. إن الفهم الكتابى الصحيح ، واجماع التقليد فى المجمع اليهودى والكنيسة المسيحية يؤكدان أن إشعياء بن آموص هو الكاتب الوحيد لسفره الشامخ العظيم بين أسفار الكتاب االمقدس ، دون أدنى شبهة أو تردد !!

 إشعياء ورؤياه

وكانت هذه الرؤيا نقطة التحول فى تاريخ الرجل ، أو بتعبير أدق ، هى دعوة اللّه العليا التى بها ناداه إلى الخدمة العظيمة ، ... ومن العجيب أن أعظم الرجال على الأرض ، هم الذين تغيرت حياتهم ، وغيروا حياة الناس ، لأن رؤيا اللّه حولت تاريخهم بأكمله ، .. ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم ، فقام برحلته الخالدة ، ... وظهر لموسى فى العليقة ، فقام برسالته العظيمة ، ... وظهر لجدعون ، فحوله من الخائف من ظله إلى بطل من أبطال الأجيال ، ... ومن المثير أن الجنرال فوشى الذى كسب الحرب العالمية الأولى يقول إنه فى 26 مارس عام 1918 ظهر له اللّه فى رؤيا وأعطاه يقيين النصر!!  ولم يكن هذا الجنرل خرافيا ، ولكنه آمن باللّه ورؤيته وانتصر !!  ... وها نحن الآن نتابع رؤيا إشعياء من جوانبها المختلفة :

 الرؤيا والسيد

قال إشعياء فى مطلع الأصحاح السادس : « فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل ، فإذا قارنا هذا بما جاء فى إنجيل يوحنا الأصحاح الثانى عشر والعدد الحادى والأربعين : « قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه » ... أدركنا أن السيد المسيح هو الذى ظهر لإشعياء فى مجده وجلاله وعظمته فى هيكل اللّه فى أورشليم ، ... وقد حدثنا إشعياء عن وقت الرؤيا ، غداة وفاة الملك عزيا ، ولعل إشعياء كان ذهنه مشغولاً وممتلئاً بعزيا الملك ، وكان عزيا من أعظم الملوك الذين ظهروا فى حياة إسرائيل ، ...  ولكنه فعل فى أخريات حياته شيئاً تعساً محزناً ، إذ حاول أن يكول ملكاً وكاهنا معاً ، فطرده اللّه لكبرياء قلبه ، بعد أن أصيب بالبرص ، وبقى فى بيت برصه إلى يوم وفاته ، ... إنه على أية حال كان يمثل الإنسان البشرى العظيم ، ونقطة النقص والضعف اللاحقة بعظمته .. لكن إشعياء تحول من الملك الناقص ، إلى الملك القدوس ، رب الجنود ، الذي له وحده عرش الجلال والكمال ، ... تحول من المشهد الأرضى إلى اللّه الذى  السماء ليست بطاهرة أمام عينيه ، وإلى ملائكته ينسب حماقة !!  ... والمسيح دائماً هو مثال الكمال ، عندما ما نفجع فى برص الناس ونقصهم وضعفهم وخيانتهم وقصورهم ، ... على أن الرؤيا تكشف عن جانب آخر ، إذ تكشف عن الملك الدائم ، عندما يتحول الملك من إنسان إلى آخر ، أو عندما نتطلع فلا نجد أحداً يملأ المكان ، ويستولى علينا اليأس والقنوط ، ... مات عزيا الملك وبقى الملك السرمدى الأبدى الحى الذى لا يموت ، وهى الرؤيا التى نحتاج إليها فى أتعس الأوقات وأحلك الليالى ، عندما صرخ دوجلاس زعيم العبيد فى الولايات المتحدة ، وهو يعدد الظروف التعسة القاتلة التى  تواجه العبيد البائسين هناك وهو يقول : كل شئ ضدنا !!  .. الظروف ضدنا !!  .. الناس ضدنا !! .. صاحت فيه امرأة زنجية : ولكن يا دوجلاس اللّه حى ولم يمت !! .. فثاب الرجل إلى رشده ، وأدرك أن العروش على الأرض تهوى ، ولكن اللّه يسود فى عرشه ويملك ويحكم !!  .. هل نستطيع أن نرى اللّه مستقراً وجالساً على كرسى عال ومرتفع مهما أحاط بنا الظلام والفزع والضيق والحزن والأضطراب ؟؟ .

 الرؤيا والملائكة

لم يكن إشعياء محتاجاً أن يرى اللّه فحسب ، بل كان عليه أن يرى كيف يخدم السرافيم اللّه والكلمة « سرافيم » من أصل عبرى معناه « الملتهبين »  « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة »  " مز 104 :  4 " وكان لكل واحد ستة أجنحة ، فهناك جناحان للطيران ، وبهما يطير ملتهباً فى غيرته لخدمة اللّه !!  ... والخدمة المسيحية ، لابد أن تكون هكذا ، ... كان واحد من خدام اللّه الصينيين ، وكان غيوراً للمسيح ، فى الولايات المتحدة ، ينتقل فى القطارات وهو يوزع النبذ المسيحية ، وذات مرة  رأى أمامه سيدة تبدو غنية وأنيقة ، وقدم لها نبذة عن الخلاص ، ... وإذا سألته عما فيها قال : إنها قصة جميلة أرجو أن تقرأيها ، فصاحت في ووجهه : لا أريد ، وألقتها فى وجهه ، .. وقد راعه أكثر  أن الكمسارى قال له : إن هذا ممنوع  وتألم الرجل ، وهو يسأل نفسه كيف يمكن أن يمنع هذا فى بلد خرج منه المرسلون إلى العالم لينادوا ببشرى الخلاص ؟ ... ولكن واحداً من الجالسين تقدم إليه وهز يده قائلا : إنك هززت قلبى من الأعماق ، إذ أرى أحدهم يشتغل بعمل سيده !!  ... كان هذا الخادم يأخذ أجنحة السرافيم وهو يقف فى الطريق يصلى ويرنم بالأغانى  المسيحية ، وقد هز نفوساً كثيرة بحياته الملتهبة فى خدمة سيده !! ... على أن السرافيم يعطوننا صورة أخرى ، صورة الإتضاع فى حضرة اللّه ، إذ يغطى كل واحد منهم وجهه بجناحين ، لأنه لا يجسر أن ينظر إلى وجهه اللّه !!  ... وفى الحقيقة إن الاتضاع من أهم صفات الخادم المسيحى ، وما ير هذا الخادم نفسه على وضعها الحقيقى فى حضرة اللّه ، كما كان يرى داود نفسه كبرغوث أو كلب ميت أو لا شئ على الإطلاق ، ... فإنه لا يستطيع أن يقوم بالخدمة أبداً !! .. تقابل أحد خدام اللّه مع عضو ثرثار ، وكان هذا العضو يتحدث كثيراً ، ويكرر الكلام ، والراعى مستعجل يريد الذهاب إلى مكان ما ، وأخيراً قال له : أنا مشغول وينبغى أن أذهب بسرعة !!  ... ألا تعرف من أنا !! ؟ ... وقال العضو : نعم أعرف ، فانت الواعظ !! ... ولكن هذه الكلمة رنت فى أذن خادم اللّه وقال : هل ينظر الناس إلى أنا ، وهل أوجه الالتفات إلى نفسى أم إلى المسيح!!؟ وذهب إلى بيته ، وأغلق على نفسه ، وظل هناك حتى صلب الإنسان العتيق وعاد ليعظ : « ينبغى أن ذلك يزيد وأنى أنا أنقص » " يو 3 : 03  ز  .. كان هناك واعظ ينقلونه من كنيسة إلى كنيسة ، لأنه كان  جافاً ويترك الجفاف فى كل مكان ذهب إليه!!.. وقال له الشخص المسئول فى المجمع : أنا لا أستطيع أن أعينك فى كنيسة ، إنهم يصفونك بالقصبة العجوز الجافة وبكى الرجل العجوز وقال : أعطنى هذه الفرصة الأخيرة فعين فى قرية ، وفزعت القرية إذ سمعت بخبر تعيينه .. لكنه دخل  إلى مخدعه ، وصارع مع اللّه ، وعندما خرج ، خرج إنساناً آخر ، حتى كانوا يصفونه بالقول : إن القصبة العجوز اشتعلت فيها النار بعد الاتضاع والبكاء فى حضرة اللّه !!  وكان الجناحان الأخيران يغطيان القدمين ، وهو الأمر الثالث فى الخدمة ، ونعنى به الاحترام الكلى لعمل اللّه ورسالته ، تعود أحدهم أن يدخل الكنيسة دون أن يرفع قبعته ، وإذ سأله الراعى عن السر فى ذلك قال : لا تؤاخذنى لعدم رفع القبعة ، فقال الراعى : لا مؤاخذه . فهذا ليس بيتى  !! إن من أهم مقومات الخدمة المسيحية الإجلال والاحترام الكامل للّه وبيته وخدمته ورسالته !!

 الرؤيا والنفس

بعد أن أبصر إشعياء اللّه ، والملائكة ، رأى نفسه وحالته فصاح : « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين » ( إش 6 : 5 ) هذا ما أحس به إشعياء وهو فى بيت اللّه ، ونحن فى العادة نرى تصرف الناس فى بيت اللّه يختلف إلى حد كبير عن هذه الرؤيا إذ عندما يحضرون ، ما أكثر ما يهنئون الواعظ على العظة البليغة الممتازة الى ألقاها ، وينصرفون إلى الراعى دون أن يروا أنفسهم !!  ... وقال أحدهم : إن الكثيرين يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم يههنئون أنفسهم بالبركة والتعزية التى حصلوا عليها ، ثم يأكلون طعامهم ويشربون شرابهم ، ويمكن أن يقال لهم : لقد أكلتم  ، واحتسيتم وامتلأتم من القهوة أو الشاى ، لأنكم لم تروا أنفسكم وخطاياكم لكى يصيح الواحد منكم : ويل لى إنى هلكت » ..

جاء فى قصة قديمة أن شاباً غنياً استجاب لرسالة المسيح ، وعمده الرسول يوحنا ، وعندما علم أبوه بذلك خيره أن يختار فى أربع وعشرين ساعة بين دينه القديم وثروة أبيه ، أو المسيح يسوع !! ... وقال الشاب : إنى  أختار المسيح ، وخرج من بيت أبيه وعاش فى أوساط المسيحيين الفقراء مدة عامين ، ... وفى يوم عيد الميلاد كان يتجول فى غابة ، وكانت نفسه فى أقسى حالات التجربة ، وتصادف أن تقابل مع كاهن وثنى ، وسأله الكاهن : لماذا يتجول بعيداً عن أصحابه وهداياهم !!  ؟  ثم ابتدره على ما تقول القصة بالسؤال : هل يمكن أن يعطيه أى للكاهن -  اسم المسيح ، وفى مقابل ذلك سيعطيه الكاهن ما يشتهى من ثروة وجاه ونفوذ ؟!! ... وقبل الشاب المبادلة ، وسار فى إتجاه بيته القديم ، ليجد أباه فى ضجعة الموت ، وقال له الأب : إنى آسف يابنى لأنى عاملتك  هذه المعاملة القاسية ... هل لك أن تعلمنى عن السر المسيحى ؟ وارتبك الشاب وهو يقول : « انتظر يا أبى قليلا ... حتِى أشرح لك السر !! . وقال له الأب : لا أستطيع الانتظار ، ومات بين يديه !! ... وصرخ الشاب وهو يدرك أن سر  تلعثمه راجع إلى أنه خضع للتجربة ، فبكى وهو يقول  « ويل لى إنى هلكت » وانحنى أمام اللّه تائباً !! ... لقد عرت الرؤيا الإلهية إشعياء وشعبه ، فرأي البرص يملأه ويملأ الأمة بأكملها !!  ... عندما رأى بطرس جلال المسيح صاح : « أخرج من سفينتى يارب لأنى رجل خاطئ»  "لو 5 :  8 " نرى هل رأيت هذه الصورة أيها القارئ وأنت فى حضرة اللّه ؟!! .

 الرؤيا والتطهير

ما أن اعترف إشعياء بخطيته حتى أدرك فى الحال ما قاله الرب على لسانه : « هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج إن كانت حمراء كالدودى تصير كالصـــــوف » ( إش 1 : 18).. ولم يحتج إلى وقت حتى يظهر ، إذ طار واحد من السرافيم ، وقد أخذ جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه ، والسؤال : لماذا هى جمرة ، ولماذا أخذت من على المذبح !!؟ إنها جمرة لأنها تشير إلى عمل الروح القدس النارى . .. ومن على المذبح لأنها تشير إلى عمل المسيح الكفارى ... واللّه ينتزع خطايا إشعياء وخطاياى وخطاياك بفداء المسيح ، وتأثير الروح القدس ، ... ولعلنا نلاحظ هنا أن السيد لم يوبخ إشعياء على خطاياه ، أو  ينظر  إليه بغضب ، أو يذله بها، بل سارع فى الحال إلى تطهيره عندما اعترف بها .

جاء فى قصة أن أحد المؤمنين القديسين بعد أن تتجدد عرض للكثير من الضعفات والتجارب التى أسقطته ، وحلم ذات يوم أنه ذهب إلى السماء ، وإذ رأى المسيح أحنى رأسه خجلا ، وقال : يا سيدى إن خطاياى كثيرة ... وأنا حزين عليها !! ... ولشدة دهشته سمع السيد يقول : « إنى لا أذكر البتة خطية لك ، لقد محوتها جميعاً !! ..

 الرؤيا والرسالة

(من أرسل ومن يذهب من أجلنا ؟ ) .. " إش 6 : 8 " ونحن نلاحظ هنا أن اللّه لم يوجه الدعوة  مباشرة إلى إشعياء أو يأمره بها ، لقد أعطاه مطلق الحرية للاختيار أو الرفض ، وهو القائل دائما : إن أراد أحد أن يأتى ورائى !! .. " مت 16 :  24 ومن العجيب أن الدولة لا تترك لأحد أبنائها الحرية ليقبل الواجب أو يرفضه ، فالمواطن لا يدفع الضريبة بالاختيار ، والجندى لا يذهب إلى الجندية بملء إرادته ، لكن اللّه لا يرغم أحداً على الرسالة التى يلزم أن يؤديها !!  .. إنه يطلق النداء العام ، وعليك أن تقبل أو ترفض ، .. وقد أجاب إشعياء على الرسالة بالإيجاب وهو يقول : « ها أنذا أرسلنى » " إش 6 : 8 " ومع أن الرسالة كانت من أصعب الرسائل وأقساها ، إذ تحدث عن خراب بلاده لأنها لا تطيع اللّه ، والنفس التى لا تطيع ، معرضة للضياع على الدوام !! ،كان  على الرجل الذى ترك حياة القصور أن يدفع الضريبة ، فى سبيل الخدمة ، وقد فعل على أعظم وجه يمكن أن يفعله نبى أو رسول أو خادم للّه فى الأض !! ..

 إشعياء والفكر اللاهوتى فى سفره

سفر إشعياء غنى بالأفكار اللاهوتية ، ومع أنه ليس من السهل حصرها فى صفحات، إلا أنه يهمنا أن نركز النظر على أهم صورها !!  .. ويمكن أن نراها بوضوح فى  :

 سيادة اللّه

ومن الواضح أن إشعياء علم بوضوح وحدانية اللّه فهو ، يذكر : « أنا الرب وليس آخر ، لا إله سواى ... أليس أنا الرب ولا إله آخر غيرى . إله بار ومخلص . ليس سواى » " إش 45 : 5، 21 " .. هذا الإله المهيب العظيم المرتفع ، الذى يعلو على كل متعظم وعال : « أدخل إلى الصخرة واختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته ، توضع عينا تشامخ الإنسان وتخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده فى ذلك اليوم . فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعال ، وعلى كل مرتفع فيوضع » " إش 2 : 10 - 12 " ... وستسقط أمام عظمة اللّه كل الآلهة التى هــى من صنــــــع الناس : « وامتلأت أرضهم أوثاناً ، يسجدون لعمل أيديهم ، لما صنعته أصابعهم ... وتزول الأوثان بتمامها ... فى ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التى عملوها له للسجود للجرذان والخفافيش ليدخل فى نقر الصخور ، وفى شقوق  المعاقل من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض » " إش 2 : 8 ، 18 ، 20، 21 " « الذين يصورون صنما كلهم باطل ومشتهياتهم لا تنقطع وشهودهم هى . لا تبصر ولا تعرف حتى تخزى .. من صور إلهاً وسبك صنما لغير نفع » ( إش 44 : 9 ، 10 ) .. وأمام سيادة اللّه وعظمته ، ما هو الإنسان ، مهما علا شأنه وامتدت قوته ؟  أنه كما صوره إشعياء : « كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة لأنه ماذا يحسب » " إش 2 : 22 " .. « الجالس على كرة الأرض وسكانها الجندب الذى ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن . الذى يجعل الغطاء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس ؟  ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه . من الذى يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة ، وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد . لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل قد اختفت طريقى عن الرب وفات حقى إلهى .  أما عرفت أم لم تسمع ؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا ويعيا . ليس عن فهمه فحص . يعطى المعيى قدرة ولعديم القوة يكثر شدة الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثراً وأما منتظرو الرب فيجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون " إش 40 : 22 ، 23 ، 25 - 31 " .

 قداسة اللّه

وقد سمع إشعياء فى الهيكل هتاف السرافيم  : « قدوس قدوس قدوس » ، والتعبير فى مفهومه العبرى  تعبير عن القداسة الكلية المرتفعة المتعالية ، وهى عندنا - كمؤمنين بالثالوث - هى  الصفة الإلهية للاب والابن والروح القدس وهى ليست مجرد الانفراد والعزلة  عن الخطية ، أو الكمال الأدبى المطلق ، بل هى - أكثر من ذلك - السمو المرتفع الذى ينفرد به اللّه وحده !!  .. وهذه القداسة هى التى لا يمكن أن تتقابل مع الخطية أو تتهاون معها ، .. والخطية هى القذارة والاتساخ والبرص ، ولهذا صرخ إشعياء فى التو والحال : « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشقتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6 : 5 " ... والخطية هــى العصيان : « ربيت بنين ونشأتهــــم أما هم فعصوا على ّ » " إش 1 : 2 " وهــــى  المرض : « من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة  طرية . لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت » .. " إش 1 :  6 " وإشعياء يؤكد أن عقابها رهيب ، وأن يوم اللّه لابد أن يقضى على الخطية والخطاة .

 الإيمان باللّه

والإيمان ، عند إشعياء ، يرتبط بالسكينة والهدوء ، والاطمئنان والأمن : « إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا » " إش 7 :  9 " « من آمن لا يهرب » " إش 28 :  16 " « لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم » " إش 03 : 51 ".. وهو الذى يعطى الإنسان السلام العميق فى وسط زوابع الحياة وعواصفها !! ..

 خلاص اللّه

وقد رأى إشعياء عمانوئيل ، والابن العجيب ، الإله السرمدى ، يتدخل بالخلاص فى حياة الأمة ، ويكفى أن نركز أبصارنا آخر الأمر على الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء ، .. وقد صاح جيروم عندما بدأ فى ترجمته من العبرانية إلى اللاتينية وهو يقول : « بالتأكيد إن هذا الأصحاح من مبشر فى العهد الجديد أكثر منه من نبى فى العهد القديم !! .. وقال ديلتش العالم الألمانى العظيم فى اللغة العبرانية والمفسر المشهور فى القرن التاسع عشر : « إن الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء ، يبدو كما لو أن كاتبه كتبه وهو تحت الصليب فى الجلجثة ... إن هذا الأصحاح هو الأصحاح المركزى ، إنه أعمق وأسمى أصحاح ، فى العهد القديم » ، وقد حاول البعض أن  يعتبره موجهاً إلى إسرائيل ورمزاً له ، لكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يفسروا كيف ينطبق هذا على إسرائيل فى الأوضاع المختلفة ، وهو يشير إلى فرد بوضوح لا يقبل شكاً ، بل إن هذا الأصحاح يتحدث عن شخص سيكون ضحية لأجل آخرين وإسرائيل لم يكن فى يوم من الأيام هذه الضحية ، .. إن هذا الأصحاح هو حديث عن المسيح لا سواه !!  .. ولعله من الملاحظ أن الجزء الأخير من الأصحاح الثانى والخمسين ، وهو مرتبط تماماً بالأصحاح الثالث والخمسين ، قد تحدث عن مجد المسيح، قبل أن يتحدث عن اتضاعه ، وهو يرينا الحقيقة المؤكدة قى قصد اللّه الأزلى ، أن الصليب سينتهى إلى المجد ، وهذا المجد ليس أكيداً فحسب ، بل هو عظيم ورائع أيضاً !!  .. فإن نصرته ستكون حاسمة ، وستسكت الملوك والأمراء والأمم والأجيال!!..

 ومن المؤسف أن إسرائيل كثيراً ما رفض أن يصدق ما أعلنه الرب ،  وأظهر به ذاته وذراعه ، ... وقد نبتت آلام عبد الرب أو المسيح من مولده فهو العود الرطب الذى نبتت فى الأرض اليابسة ، وجاء من أم فقيرة قروية ، ولم يكن له أين يسند رأسه ، ومع أنه أبرع جمالا من بنى البشر ، إلا أن  الحياة القاسية التى وجد فيها ، لم تجعل الناس يتطلعون إليه ليبصروا جماله أو يشتهوا منظره ... إن مأساة البشر أنهم ينظرون إلى الجمال عندما تحــــف به المظاهر الخداعة ، والأوضاع الشكلية ، .. وعندما جاء المسيح إلى أرضنا خلواً من هذه المظاهر احتقره الناس ، ولم يحتقروه فحسب ، بل خذلوه أيضاً ، أو فى لغة أخرى ، إن الاحتقار لم يكن سلبياً ساكناً فحسب ، بل أكثر من ذلك كان متحركاً موجعاً ، قد يحتقر إنسان آخر دون أن يتعامل معه ، ويظل احتقاره تعبيراً دفيناً فى القلب ، ولكن المسيح لم يحتقر فحسب ، بل خذل من الناس الذين رفضوا مجيئه ونداءه ورجاءه وشركته . وقد تحول هذا إلى وجع عميق فى قلبه . وإلى حزن عميق فى نفسه ، فحوله إلى رجل أوجاع ومختبر الحزن . وما يزال المسيح إلى اليوم يعانى من هذا الوضع من الكثيرين فما يزال الكثيرون يحتقرونه ، ويخذلون آماله فيهم ، ومايزال يبدو أمامنا ، وقد رفضه الناس ، رجل الأوجاع والخبير بالألم والحزن العميق . ومن الملاحظ أن النبى كشف عن الألم النيابى للمسيح ، إذ أن الذين رأوا الألم فى ظاهره ظنوه ألماً أصيلا أو عقاباً : « ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من اللّه مذلولاً » .. " إش 53 : 4 "  .. لكن الأمر لم يكن كذلك ، بل كان الألم النيابى الذى يحمله إنسان لأجل آخرين ، وقد حمل المسيح أحزان الناس وأوجاعهم ، إذ رفعها عن كاهلهم، لقد جال هو فى أرض فلسطين ، ورأى المرضى والمتألمين والحزانى ، فرفع عنهم أحزانهم وأوجاعهم ومراضهم وفى سبيل ذلك تعب هو وتوجع وأن ... على أنه فى المعنى الأعمق ، حمل عنا أوجاع الخطية وشرها وإثمها على الصليب ، ولم تكن الآلام النيابية  آلاماً هينة ، بل كانت فى منتهى القسوة والعنف ، فهو لم يجرح من أجل معاصينا فحسب ، بل سحق أيضا بالحزن والعار الذى كسر قلبه ... ، ولم يؤدب ، بل ضرب بالسياط ، وقد كان هذا من أجلنا نحن العصاة الأثمة المتمردين ، ولم يكن هناك من سبيل إلى الخلاص من عصياننا وشرنا وتمردنا والعودة إلى السلام والصحة ، إلا بآلامه من أجلنا ، فهذه آلام كفارية تكفر عنا أمام اللّه ، وفى الوقت نفسه مطهرة تشفينا ، وتعيدنا إلى صوابنا عندما نقف أمام آلامه من أجلنا !!  ... لقد ضللنا وأثمنا ، ولكنه كان هو حمل اللّه الذى يرفع خطية العالم !! ..

على أنه من الواضح أيضاً أن آلام المسيح لم تكن قهراً أو رغماً عنه ، قد يؤخذ الجندى ليموت من أجل بلده ، ولكنه يؤخذ فى كثير من الأحايين قهراً ، أما المسيح فقد كان موته اختيارياً تطوعياً . ظلم فقبل الظلم والمذلة ، دون أن يحتج أو يشكو ، ولقد كان مثلا عجيباً فى تحمل الضغط والدينونة عندما حكم عليه ، وهكذا بدا فى موته عظيماً ، لأنه تطوع بهذا الموت لأجل الآخرين !!  .. ومن العجيب أن تكون هذه الآلام برضى اللّه وسروره ، إذ سر بأن يسحقه بالحزن ، وقد سر اللّه بهذه الآلام إعلاناً عن محبته للخطاة ، وتأكيداً للنصر الذى سيتأتى عنها ، وقد كانت هذه مشورة الرب لخلاص البشر !! ..

كان إشعياء - كما أسلفنا - يعنى « خلاص الرب » وقد أدنانا - فى حديثه عن سيادة الرب ، وقداسته ، والإيمان به - من الخلاص العجيب الذى أعده لنا اللّه كاملا على هضبة الجلجثة ، والذى يدعونا إليه بقوله العظيم الكريم : التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصى الأرض لأنى أنا اللّه وليس آخر » .. !! .. " إش 45 : 22 " .

 

 

 

 

 

 

 صموئيل 13:14 .قد انتخب الرب لنفسه رجلا حسب قلبه وامره الرب ان يترأس على شعبه.

To home page  الى الصفحة الرئيسية

copyright © 2006. [ 4all nations ]All rights reserved
 2011-04-30 02:46